15-سبتمبر-2021

المتتبع لسير الأمور سيعثر على نماذج هي للشقاق أقرب منها للتضامن (فيسبوك)

يصح أن نصف أهل العراق بأنهم منشقون على أنفسهم أو متفرقون، إنما لا يصح أن نصفهم بأنهم غَدَرَة على منوال ما شاع منهم. والظاهر أن أهل العراق لا يختلفون عن غيرهم من الناس حيث يوجد فيهم الغَدَرَة كما يوجد فيهم الأوفياء، ولكن انشقاقهم على أنفسهم هو الذي جعلهم يبدون أحيانًا كأنهم غَدَرَة. فقد تظهر فيهم فئة تدعو إلى شيء حتى إذا تم لهم ذلك ظهرت فيهم فئة أخرى تدعو إلى النقيض منه، وبذا قد تضيع الحقيقة بينهم وتسوء سمعتهم. علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي.

دائمًا ما نردد هذه العبارة، أن التنظيمات المدنية لا وجود لها مقارنة بأحزاب السلطة. بعبارة أوضح، لا توجد معارضة "عَلمانية" حقيقية توازي الفتح وسائرون، أي لا يوجد خصم سياسي لهذه القوى السياسية المهيمنة. فالصدريون، مثلًا، يمكن لمقتدى الصدر أن يعلن انسحابه من العملية السياسية ثم يعود بعدها معللًا ذلك الأمر بمقتضيات المصلحة العامة. وسواء كان التعليل مقنعًا لخصوم السلطة، وللتيار على وجه الخصوص، فلا الخصوم يمكنهم أن يغيروا المعادلة ولا الجمهور الموالي يمكنه أن يغير رأيه العقائدي الثابت بوجوب التمسك بأوامر رمزه العقائدي.

الجماعات في العراق ممسوكة عقائديًا ولا يمكن تحليلها طبقًا للمجتمعات الحديثة، فهذه الأخيرة تحركها المصالح، بينما الجماعات الممسوكة تحركها العقيدة

 المقصد من هذا، أن الصدريين سواء أعلنوا انسحابهم ثم رجعوا بعدها فسيبقى جمهورهم ثابتًا. والأمر لا يحتاج إلى مؤونة تحليلية لتوضيحه؛ فالجمهور العقائدي يتحرك ضمن الولاء ولا يحركه البرنامج السياسي. حتى لو تضاءل حجم هذا الجمهور وأبدى نوعًا من الفتور في المهرجان الانتخابي القادم أو الذي سيليه بعد دورة انتخابية أخرى، فلا يمكن أن نستنتج من هذا الفتور أبعادًا سياسية صرفة، وإنما يرجع إلى بعض الخلافات داخل الكتلة العقائدية. ليس من الصحيح أن نعلل أي تراجع، إن حصل، لمقتضيات العملية الانتخابية، ذلك أن مجتمعًا تقليديًا مثل المجتمع العراقي لا تحركه، على الأرجح، البرامج الاقتصادية، وهذا مما أفضنا فيه في مقالات سابقة.

                                                قناتنا على تلغرام.. تغطيات مُحايدة بأقلام حرّة

 لو غاب البرنامج السياسي هذا لا يمنع من تمسك الجمهور بالتنظيم الذي تمت تزكيته من قبل الرمز الديني. ما ينطبق على الصدريين ينطبق، مع فوارق معينة، على التحالفات الأخرى ذات التوجه العقائدي. المهم في الأمر ليس المقصود هو مقارنة أي التنظيميات العقائدية أكثر طاعة لرموزها، وإنما لإيضاح الخارطة السياسية لقوى السلطة المهيمنة بسنتها وشيعتها: إنها خارطة قائمة على تنظيمات عقائدية تتمتع بجمهور غفير. فالعزوف الذي قد يحدث بين صفوف هذه التنظيمات قد نعزّيه إلى مبادرات فردية، ومن المُستبعّد أن يتحول إلى ثقافة جماهيرية. باختصار: إنها جماعات ممسوكة عقائديًا لا يمكن تحليلها طبقًا للمجتمعات الحديثة، فهذه الأخيرة تحركها المصالح، بينما الجماعات الممسوكة تحركها العقيدة. ولا حاجة إلى تكرار هذه البديهة.

والحالة الطبيعية، كما أزعم، لمثل هذا الأمر ظهور قوىً سياسية معارضة تملأ الفراغ، إن حدث مستقبلًا، وتنادي بدولة عَلمانية، تعقد فيما بينها روابط اجتماعية متينة وتوحّد خطابها، وتكون خطواتها شديدة الحذر، وأن تبتعد من التفاصيل الهامشية التي تسرع بخسرانها المبين. وأزعم، أن  من يطالبون بدولة عَلمانية وحكومة مواطنة أكثر ممّا نتصور. وبما أنهم لا يتخذون من الولاء العقائدي منهجًا لهم، وأنهم يسترشدون بطريق العقلانية، فهذه الأخيرة تحكمهم، إن كانوا مهتمين بالعمل السياسي طبعًا. تحكمهم بالبحث عن تنظيمات علمانية تلبّي طموحهم لا ان يتندروا على التنظيمات الشبابية الناشئة. وإن وجدوا أن التنظيمات التي انبثقت من رحم تشرين مثلًا، لا تلبي طموحهم، فوجب عليهم، إن كانوا مهتمين، بتنظيم أنفسهم مثلما يريدون عبر الاستعانة بأهل الاختصاص وذوي الخبرة.

اقرأ/ي أيضًا: حرية التعبير في مجتمع أهلي.. أزمة دولة وزعامة

غير أن المتتبع لسير الأمور سيعثر على نماذج هي للشقاق أقرب منها للتضامن؛ ذلك أن الطاقة المهدورة للجدل الممل والتشكيك بالنوايا والتهكم على كل من يتصدّى للعمل السياسي، هي الأقرب إلى مزاج الجمهور. ربما التوصيف الأقرب إلى واقعنا السياسي والاجتماعي هو العدمية. لو كان هذا الجمهور عازفًا عن المشاركة السياسية ولا يتدخل في تفاصيلها لكان مبررًا له، بشكل وبآخر، ذلك الجدل والتذمر والتشكيك، لكنه يقدم نفسه دائمًا كجمهور يتمايز عن تنظيمات السلطة فكرًا وسلوكًا. نعم، المزية الوحيدة التي تحسب لهذا الجمهور هو عدم تورطه بالانخراط مع التنظيمات الحاكمة. لكنها ليست مزية إيجابية على أي حال، والتجربة لم تغربلهم حتى هذه اللحظة، فالانخراط الفعلي في العملية السياسية هو من سيظهر طبيعة هذا الجمهور وما يفرزه من تنظيمات سياسية تمثله في البرلمان.

 مع شديد الأسف، لم يترجم الانفعال الذي اعتدناه في مواقع التواصل إلى خطاب عقلاني مثمر. وعلى هذا المنوال نقع في دائرة مغلقة لا منفذ لها سوى التفريغ والأهواء النفسية. والنتيجة هي الشقاق حتى إشعار آخر. هل اللغة التي أكتب بها واضحة؟ هل سيتغير شيئًا؟ لا أظن ذلك. إذن لماذا أكتب؟ لكي أعيدها في السنة القادمة، مثلما أعيد الآن، إجمالًا، ما كتبته في السنين الماضية، وهكذا دواليك!

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الدولة والجماعة في العراق: من يتحكم بنا؟

النظام العراقي: المزيد من النفخ في القربة المخرومة