14-سبتمبر-2021

حرية التعبير في المجتمع الأهلي ومشكلة الإسلام السياسي (فيسبوك)

مهما بلغ اشتباك الآراء وتطورت الأحداث ونشأت قوى بأفكار جديدة مضادة لقوى قديمة أو باتت قديمة، فأن الإشكالية الحقيقية ستعود لتؤكد أنها الأساس لكل المشكلات الأخرى: الدولة.

 ما يصدر من زعامات دينية وسياسية الآن هو تأييد ضمني لسلوك الجماهير المندفعة أو سكوت عنه في أحسن الأحوال، ما يجعلها مناقضة للدولة والديمقراطية

مع كل حدث أو أزمة تعود مسألة انهيار الدولة التدريجي الذي تجلى في لحظة 2003 إلى الواجهة، وما تلا ذلك الانهيار من عودة المجتمع إلى بُناه التقليدية. وفي الحالة العراقية فأن المؤسسة الدينية والرابطة العشائرية لا ثالث لهما.

                                                قناتنا على تلغرام.. تغطيات مُحايدة بأقلام حرّة

في المشكلة الأخيرة بين التيار الصدري وأحد الناشطين السياسيين البارزين والذي يقول إنه فاز بعضوية مجلس النواب وفق قرار القضاء، برزت تلك الثنائية التي تُشكل نسيج المجتمع العراقي بأغلبيته، حين اصطدم سياسيان أحدهما يتبع تيارًا دينيًا سياسيًا، والآخر يصنف نفسه مدنيًا، بسبب تشكيك الأخير بمصداقية زعيم التيار مقتدى الصدر في مسعى الإصلاح ووصف ادّعاءه بـ"النفاق".

ما إنْ انتشرت تهديدات وشتائم الصدريين التي شارك بها أحد أبرز المتهمين بجرائم قتل على الهوية أيام الحرب الطائفية حتى هبت عشيرة الناشط (أو النائب) المدني باسم خشان لتدافع عنه ضد التهديدات وتحمّل الصدر مسؤولية تعرضه لأية اعتداءات إن حدثت.

اقرأ/ي أيضًا: الدولة والجماعة في العراق: من يتحكم بنا؟

يفترض أصدقاؤنا المثاليون من دعاة الدولة أن أنصار بناء الدولة لا يلجأون للعشيرة ولو ضد ميليشيا، وهو افتراض صحيح ومثالي في ذات الوقت، إذ أن مدنية الدولة (بتعريفاتها الكلاسيكية) تقوم على المواطنة، والتمسّك بالمواطنة يشترط وجود دولة بالمقابل، تنتزع حق الفرد أو تحميه، وفي أضعف الإيمان تحكم عليه بقانونها إن هو أساء لحرية التعبير بتقديرات القضاء كما في حالة خشان. والعبارات الأخيرة ستثير سخرية المثاليين بلا شك لكنهم سيطالبون مجددًا النائب بعدم اللجوء إلى عشيرته لحمايته من تهديدات جماعات لا تتورع عن إيذاء الناس إن هُم مسّوا قائدهم بكلمة، في وقت لا أظن أن القضاء يمكنه قول كلمته بارتياح.

في حرية التعبير

يعني الناقد ما يقول وقد أصر عليه، وهو رجل قانون لا يطلق كلمات دون حسابات قانونية. كما أن القاعدة الصدرية جادّة في تهديداتها وتصر على أن قائدها يجب ألّا يُمس. ووفق التجربة، نرى أن القانون وحده لا يكفي. ليست القاعدة الصدرية بالشاذة عن الجماعات الدينية أو العقائدية بل وحتى السياسية في بعض الحالات على مستوى المنطقة وخارجها. وما يحكم سلوك القاعدة بعد قوة الدولة والقانون هو سلوك قادة الجماعات، ففي دولة القانون العظمى، الولايات المتحدة الأمريكية، تسبب دونالد ترامب بتصريحاته المستثيرة للهمجية الكامنة في الجماعات بأزمة الكابيتول التي ما زالت الصحافة الأمريكية والمؤسسات تناقشها حتى اللحظة.

وفي ظل غياب الدولة العراقية عن أداء دورها الذي وجدت الدول من أجله، يكون التعويل الوحيد على الزعامات في ضبط سلوك جماعاتها حفاظًا على حرية التعبير إن كانت ديمقراطية بحق أو تفاديًا للأزمات إن كانت وطنية وواعية معًا، ولعل التأصيل الديني لهذا الضبط موجود في التاريخ الإسلامي وسلوكيات القادة المسلمين منذ النبي محمد مرورًا بالصحابة والخلفاء والأئمة، وقد ذكرنا في مقالة سابقة بعضًا من مواقف الإمام علي في حالات شتمه والإساءة إليه وهو أمير المؤمنين في زمانه؛ لكن ما يصدر من زعامات دينية وسياسية الآن هو تأييد ضمني لسلوك الجماهير المندفعة أو سكوت عنه في أحسن الأحوال، ما يجعلها زعامات مناقضة للدولة والديمقراطية.

أفترضُ أن مشكلة التيار الصدري بزعامته وقاعدته، هي ذاتها لدى ما يُطلق عليهم بجماعات الإسلام السياسي في عالمنا العربي. إن الجمعَ بين السياسة بمفهومها الأدنى (أحزاب وبرلمان ووزارات) والدين ممكنٌ؛ لكن غير الممكن هو حمل القداسة والمُطالبة بالاحترام من المؤسسة الدينية إلى ميدان السياسة بالمفهوم المذكور، وقد أخبرنا التاريخ بفشل ذريع للتجارب المشابهة.

إن ما حصل ويحصل وسيحصل هو ثقوب في قاربٍ يبدو أن ربّانه لا يعي ما يجري في الشاطئ وما ينتظره من أمواج كاسرة، ذلك أن السياسة "مكان اللا مقدس".

لا يفتقد الناشطون للدولة بجهازها الأمني والقضائي فحسب، بل للمجتمع المدني الذي يمكنه حماية المواطن حتى من الدولة نفسها

وبالعودة إلى حرية التعبير، لا يفتقد الناشطون للدولة بجهازها الأمني والقضائي فحسب، بل للمجتمع المدني الذي يمكنه حماية المواطن حتى من الدولة نفسها. وفي دولة مفككة تمسك الأحزاب الكبيرة مؤسساتها وتمتد إلى الأمن والاقتصاد، وتتذرع بأجنحة مسلحة، لن نأمل بموقفٍ من وسائل الإعلام على الأقل بالاتفاق على عدم استضافة من لا يحترمون الآراء ويهددون منتقديهم في وقت لا يكفون عن انتقادهم اللاذع للآخرين، كما يفعل أعضاء ونواب التيار الصدري.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

النظام العراقي: المزيد من النفخ في القربة المخرومة

حريةُ التعبير وقتله