27-أغسطس-2019

يلجأ البعض إلى شتم الحضارة الإسلامية سعيًا وراء إعجاب الغرب (فيسبوك)

تغدو ثقافتنا وتاريخنا عبارة عن "لوثة" في نظر البعض. هذا الصنف من الذين يصفهم الراحل هادي العلوي، يكافحون ليل نهار على إبادة الوعي العربي. وجد هؤلاء الآن من يصغي إليهم في مواقع التواصل الاجتماعي؛ فلمجرّد أن تكتب "العرب أمّة متخلّفة" ستجد الآلاف من يسبّحون بحمدك، وربما تدخل "التنوير" من أوسع أبوابه.

مجرّد أن تكتب "العرب أمّة متخلّفة" ستجد الآلاف من يسبّحون بحمدك، وربما تدخل "التنوير" من أوسع أبوابه

 طبعاً لا أعني هنا من يرتزقون من الدكاكين المشبوهة، فهؤلاء لا يقدمون ولا يؤخرون، وإنما أقصد بني جلدتنا الهائمين في دنيا الأحلام، يتقمصون نمط الحياة الغربية لكنّهم لا يحصلون على كسرة خبز من هذه الأحلام. وعلى رأي بعض الباحثين العرب، إنها محاولات لإثارة إعجاب الغرب، والحقيقة لهم الحق فيما يحلمون، لكن الواقع أقسى وأصلب من هذه الأحلام تمامًا.

اقرأ/ي أيضًا: عقوبات رمزية وحفلات لجلد الذات

إن هؤلاء ليسوا عملاء بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بمعنى لم تشرف على تدريبهم وتهيئتهم دوائر الاستخبارات العالمية، ولم يستلموا رواتبهم من جهات مشبوهة. المؤسسة الوحيدة التي "تدربوا" فيها وأرضعتم قيمها، هو الشعور بالعدمية والدونية. فيهرولون إلى تاريخهم للنيل منه - وليس نقده- كما لو أنه أمهم!؛ فالأم هي أقرب كائن إلى شعورنا، فعليها يقع المديح والثناء، أما في فترة المراهقة فلا تجد منّا سوى التذمر والشكوى.

يعتقد هؤلاء أن استمرارهم بهذه الدونية يستدعي نبش تاريخ ثقافتهم حصرًا (وليته كان نقديًا)، وبما إن الثقافات الأخرى قد وجدت طرقًا للتنمية والثراء والتقدم فلا يصح لنا نبش تاريخهم. بل "يجب" علينا تقديسهم بأشكال ملتوية كي لا نتهم بلوثة التقديس ونتساوى مع المتدينين.

لا مشكلة لديهم إطلاقًا بحروب أوروبا الاستعمارية وسرقة ثروات العالم خلال خمسة قرون، بل مشكلتهم مع تاريخ عمره أربعة عشر قرنًا!. يمكنهم استدعاء الماضي السحيق للحضارة العربية الإسلامية، غير أن بوصلتهم النقدية يصيبها العطب تجاه السياسات الظالمة في الشرق الأوسط في لحظتنا الحاضرة.

المشكلة ليست في صحّة هذه المقارنة من عدمها، وإنما تكمن المشكلة في هذه الأذهان، هو أنها تستبيح لنفسها استدعاء الماضي متى شاءت، بينما هو محرّم ومثار تهكم على باقي الجماعات الأصولية. إذا تطلب الأمر في شتم الحضارة العربية الإسلامية فستتحول الأحداث التاريخية جميعها إلى يقين مطلق، لكن لو تطلب المزاج العدمي التشكيك في هذا التاريخ، فستغدو معظم الأحداث مشكوك فيها. بعبارة أخرى: الأحداث السلمية مشكوك فيها، والأحداث الدموية يقين مطلق!

لا تعتقد الأجيال الجديدة بجدوى الاطلاع على تاريخها، لأنها نشأت وتبرعمت على منصات التواصل الاجتماعي وروادها الذين يتعاملون بعدمية مطلقة لتاريخهم

لا تعتقد الأجيال الجديدة بجدوى الاطلاع على تاريخها، لأنها نشأت وتبرعمت على منصات التواصل الاجتماعي وروادها الذين يتعاملون بعدمية مطلقة لتاريخهم، فتظهر صرخات نسيان الماضي، والتشكيك بسرديات التاريخ، لكن إذا تطلب الأمر جلد ذواتهم سيستحضرون تاريخهم كما لو أنه لحظتهم المطلقة!.

إما أن نكون شرفاء ونحترم حقائق التاريخ، وبالتالي يتساوى لدينا، نقديًا، التاريخ العربي الإسلامي، والغربي، والآسيوي وغيره. بعبارة أخرى: أن نعطي للماضي ما له وما عليه أيًا كانت الجغرافية التي يقطنها. فمن هذه الناحية سنتصدى، نقديًا، للحضارة العربية الإسلامية واستخراج غثها وسمينها، ونعطيها مالها وما عليها، كأي حضارة تجتمع فيها النقائض، فبقدر ما تفرز لنا فتوحات علمية وفنون وآداب وعمارة، فبالتأكيد ستفرز لنا دماء ومظالم وصراع على السلطة. وحضارتنا ليست حضارة فقهاء فحسب، بل كان للعلماء والفلاسفة والأدباء والمتصوفة دور بارز في إرساء دعائم هذه الحضارة ذات التنوع العرقي.

فارق كبير بين النقد والهجاء؛ فالأول يفتح لنا إمكانات واسعة للتفكير، والثاني يصدر عن حكم قيمة، يصدر عن معيارية فاضحة ومبيتة غايتها الإساءة والتهجم، ويضعنا في إشكاليات مغلقة، لكن يجري تغليفها وتصديرها على أنها بضاعة نقدية.

ضمن هذا المسعى بالتحديد، يمكن لأحدهم أن يزبد ويرعد دفاعًا عن الإنسانية ويعذبه ضميره حول تاريخ الفتوحات الإسلامية للبلدان الأخرى، لكنه يغض الطرف، بل يثني  على الاستعمار الحديث ويقدسه، ويطالبنا بتصحيح اعتقاداتنا "الزائفة" عن الاستعمار، لذا يحلو له لعن الفتوحات الإسلامية، لكنه يتهكم على مفهوم الإمبريالية، ذلك إن هذا الأخير قديم ولم يعد صالحًا للتداول!، أما الأول ( الفتوحات) فهو راهن فلا بد من تعريته ونقده.

يمكن لأحدهم أن يزبد ويرعد دفاعًا عن الإنسانية ويعذبه ضميره حول تاريخ الفتوحات الإسلامية للبلدان الأخرى، لكنه يغض الطرف، بل يثني على الاستعمار الحديثويقدسه 

فقدان النموذج أمر مؤلم بلا شك، لكنه، وبذات الوقت، لا يستدعي شتم ذواتنا وجلدها محاولةً لاسترضاء الغرب. فهذا الأخير لا يعترف بنا مهما حاولنا التقمّص. لكن هل يستوعب "العدميون الجدد" هذا الكلام؟

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

اغتيال العقلانية العربية

ما هي "خطيئتنا" كعرب ومسلمين؟!