14-يونيو-2022
الديمقراطية

عن الديمقراطية العراقية التي تحكم على مقدم برنامج سياسي بالموت الرمزي (فيسبوك)

شهور عجاف يتصارع السياسيون على تقسيم المغانم ولم يقبلوا بمبدأ الأغلبية. وقبلها سنين عجاف جرت على نحو مماثل كبّدتنا ثمنًا باهظًا. وهذا الأخير لو استهلكوه في بناء المؤسسات وتشييد البنى التحتية لأراحوا البلاد والعباد. قرابة العقدين ولا زال الصراع على السلطة هو النواة الصلبة لثقافتنا السياسية، وظل سؤال الدولة يتوارى بين الخطابات المثالية ذات التسويق الإعلامي. في كل الفعاليات الإعلامية الهزلية التي كان يطل من خلالها ساسة البلاد، يثبتون للقاصي والداني أن الشرط المسبق لبقاء وديمومة القوى السياسية ليس في قيام الدولة، وإنما في تشييد دعائم السلطة.

في "الديمقراطية العراقية" لا يوجد مفهوم الأغلبية السياسية وإنما "حق المكوّن" وهو مفهوم غريب وهجين

 

وهذا أمر غريب، ذلك أن ديمومة القوى السياسية مرهون بقوّة المؤسسات. بتعبير آخر: لكي تضمن اتساع رقعة الهيمنة، وبصفتك تمثل أغلبية طائفية، كما جرت العادة، ليس عليك أن تراهن على قوة السلاح فقط، بل هذه السياسة عادة ما تنتهجها الأقليات السياسية في الحروب الأهلية التي تسبق قيام الدولة، وليس قوىً سياسية تمثّل، حسب المبدأ، طائفة كبيرة في العراق تُعد أكبر حاضنة شعبية للقوى السياسية الشيعية.

لكنّ الملفت في هذا الأمر ظلّت هذه الأحزاب وفية لسلوك الأقلية. أكثر من ذلك، أن ما شهدناه في الانتخابات الأخيرة يعزز هذا الاستنتاج: إنهم قلقون من مبدأ الأغلبية، وكان العذر الشهير هو تمثيل المكوّن الشيعي بوصفه يمثل الكتلة الأكبر.

وبما أن الوضع السياسي العراقي لا يحتاج عدّة معرفية ضخمة لتحليله، سنفهم على الفور أن القضية أبعد من مصلحة المكوّن، ذلك أن هذا الأخير أصبح أحد الأساطير المؤسسة لقصة السلطة في العراق الجديد؛ فالوقائع أصدق أنباءً من عشرات المقالات التي كُتِبَت بخصوص هذا الشأن، حتى أن التذكير بها أو الإشارة إليها سيغدو تدويرًا لما قيل سابقًا، فقد أسهب فيه الكتّاب لدرجة الغثيان. وأتضح الأمر وبات أكثر جلاءً من ذي قبل في الآونة الأخيرة. والحق أن كلمة "انسداد" لم تعد تفي بالحاجة ولا يمكنها، عمومًا، تفسير ما يحدث.

فلنسلّم بـ"مسلّمة"، ولو بنحو الاحتمال، أن جميع مفاهيم المعجم السياسي التي أفرزها واقع النظام السياسي الحديث لا تحلل الواقع. وإنما ستغدو الذات في عالم ومواضيعها في عالم آخر؛ الذات عراقية محضة، والمواضيع فرنسية بامتياز! الواقع عراقي، والأحلام باريسية.

لذلك، أن الكلام عن "ديمقراطية"، و"حرية"، و"عدالة"، و"تعددية"، و"مواطنة"، الخ.. مفاهيم لا تطابق الواقع، إن شئنا التكلّم بطريقة منطقية؛ ما في الأذهان لا يطابق ما في الأعيان. تتكلم الناس عن ذلك الذي ينبغي أن يكون، في حين أن ما هو كائن يأبى الانصياع. نظام ديمقراطي حديث، من حيث الهيكلية، ومجتمع تقليدي تصرعه حماسة "المهوال" وحمية التقاليد القبلية والمذهبية. إنها ديمقراطية لا تنجب إلا مثيلها ومطابق لصورتها، أنه تأويل متعسّف يلوي عنق الديمقراطية وينزلها للحضيض، لتغدو أسيرة يجري تقزيمها باضطراد لصالح سلطة الأعيان والشيوخ وعلية القوم. ديمقراطية مات فيها، بضربة قاصمة، مفهوم الأغلبية السياسية، ليحل محلها مفهوم غريب وهجين أسمه "حق المكوّن".

يمكننا أن نستشفّ من هذا كلّه، أنه ثمّة صراع محموم ليس على السلطة فحسب، وإنما صراع يعد العدّة لتحطيم آخر معاقل الديمقراطية الناشئة في العراق (الأغلبية السياسية)، ويجهز على أي محاولة جادة للتحول الديمقراطي. ذلك أن الصراع على السلطة أمر مفروغ منه، لكنهم اصطدموا بخصم عنيد (الديمقراطية)، الذي يوزع السلطة ويجري بالضد من أشواقهم الجامحة.

استغرب من تلك الصيحات التي تتعالى بين الحين والآخر لذمّ المثقف (ولا أقصد المثقفين السائرين في ركاب السلطة)، فهذه ليست فرنسا أم الحريات، الضامنة لحقوق حرية الفكر، وحرية التعبير، هذه الديمقراطية العراقية التي تحكم على مقدم برنامج سياسي بالموت الرمزي، ليس لشيء سوى أنه مقدم يستضيف شخصيات غاضبة على النظام. ولك أن تحكم في أي عصر نعيش، وأي حقبة سوداء نوثّق لها: إنها ديمقراطية الموت الوشيك لكل من يطالب بالديمقراطية الحقةّ!