يستهلك أخي ابن الخمسة عشر ربيعًا أغلب وقته في الانشغال بلعبة "بوبجي" الإلكترونية، وفي الحين والآخر تصرخ عليه جدتي بلهجة جنوبية "يا جدة هذه اللعبة إسرائيلية، أدخلوها لنا جماعة شارون لكي تلهي أطفالنا عن الدراسة"، جدتي على غرار الكثير من العراقيين تعتبر كل شيء غير مجدي يقوم به أحفادها هو من صناعة صهيونية، وإن إسرائيل هي الخطر الذي يهدد حياتنا ومستقبلنا جميعًا. هذا الجانب النفسي لدى الكثير من أبناء هذه البلاد لا يمكن أن يتجاوزه دعاة "التطبيع" بسهولة، بل أكاد أجزم بعدم القدرة على تجاوزه نهائيًا.
الجانب النفسي لدى الكثير من العراقيين هو كره "إسرائيل" الأمر الذي لا يتجاوزه دعاة التطبيع بسهولة، بل لا يمكنهم ذلك
يعمل الإسرائيليون في محاولة هدم الجدار الكونكريتي العازل بين الدولة العراقية وكيانهم الغاصب، حيث ظل العراق عصيًا منذ قيام "إسرائيل"، إذ أنه البلد العربي الذي لم يوقع اتفاقيات الهدنة التي جرى التوافق عليها في حينه. ولذلك هو من الناحية القانونية، لا يزال في حالة حرب مع الكيان الصهيوني. ولا ننسى أن العراق كان قائد محور المعارضة لاتفاقية كامب ديفد، حيث ظل يهاجم هذه الاتفاقية ويشجبها، واعتبرها مساس في صميم العروبة، بغض النظر عن الحكومات التي قادت هذه المواقف ونظرتنا لها كحكومات مستبدة خدمت "الكيان الصهيوني" في تمددها الديكتاتوري، لكن هي حالة تعبّر عن نظرة العراق للكيان الصهيوني. هذا إضافة للحضور الشعبي للدور العراقي في مواجهة النكبة في الوعي الجمعي الفلسطيني، سواء في المقبرة المموهة لشهداء العراق في القدس، أو تلك الظاهرة في جنين.
اقرأ/ي أيضًا: الدعوة إلى "التطبيع".. أسئلة النموذج والدولة
لا ينقطع التملق من قبل "إسرائيل" تجاه العراق، حيث صرح وزير المالية موشيه كحالون، أن حكومته رفعت العراق من "قائمة الأعداء" المعتمدة رسميًا، وإن ذلك يتيح إمكانية التبادل التجاري بين البلدين، عسى وأن يتم إدخال العراق في حفلة التطبيع العربي الجارية حاليًا.
العراقيون رفضوا "إسرائيل"، إضافة إلى أنها تحتل أرضًا عربية وتشرد شعبها وتدنس مقدسات مسيحية وإسلامية، إنها كيان عنصري، قام على القتل و الجريمة ولا يزال. ولأنه لا حياة ولا تطور ولا تنمية ولا دول ديمقراطية حقيقية في منطقتنا، ما دام هذا الكيان الاستعماري يحتل فلسطين. وكل من يفكر عكس ذلك من طنجة إلى حلب ومن مسقط إلى صنعاء، هو واهم، ونتائج هذا الاستعمار واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
ما استدعى الكتابة عن هذا الموضوع هو تصريح رئيس الوزراء العراقي في 3 آذار/ مارس، الذي أوضح فيه موقف العراق في خضم الحديث عن "صفقة القرن" وهرولة بعض العرب نحو التطبيع، قائلًا، إن "العراق سيبقى مدينًا لفلسطين ومقاومة الفلسطينيين للاحتلال وفي الدفاع عن قضايانا المشتركة، فالقضية الفلسطينية ستبقى قضيتنا جميعًا، مبينًا أن "فرحنا العظيم سيكون يوم تنتصر فلسطين وتستعيد كامل القدس، ويحقق الشعب الفلسطيني مطامحه في دولته المستقلة وتكون القدس عاصمته الأبدية"، وبغض النظر عن صدق الموقف من عدمه ودوافعه، فإن رؤساء الوزراء في العراق لا يستطيعون ـ مهما كانوا ـ أن يتجاوزا عداء العراقيين لإسرائيل بالرغم من المواقف القليلة في "فيسبوك"، والتي لا تذكر إلا في إطار الأحلام الصبيانية.
وبالرغم من أنها ليست حالة عامّة، لكن لا بأس بمناقشتها في أطر الحوار العقلاني، بالرغم من أن الدعوة إلى التطبيع هي في وجه آخر صرخة طفولية غير عقلانية لغياب نموذج الدولة الحقيقي الذي يوفر الاستقرار والأمان والحالة الاقتصادية الجيدة.
دعاة التطبيع بإطار إنساني
حضرت بعض "المبررات" على ألسنة بعض النشطاء في "فيسبوك"، مغلفة بأقنعة إنسانية نستطيع أن نقول عنها إنها كلام حق يراد به باطل، مثل الإشارة إلى الظلم الذي لحق بـ"اليهود المهجرين" من العراق في منتصف القرن الماضي، والدعوة إلى إعادة أملاكهم التي تركوها قسرًا، والتركيز على أعمال النهب التي حدثت في بداية الأربعينيات والأحداث التي قتل فيها عددًا من اليهود والتي لا تزال مثار جدل، ولا اعتراض على هذا الكلام طبعًا وتنفيذه من واجب الدولة، وإقصاء اليهود هو جريمة بحقهم كمواطنين طبعًا، لكن الكلام عن "يهود العراق" يأتي للأسف، أن لنا أصحاب هناك، لم لا نطبع مع إسرائيل للتواصل؟، وكل هذا بهدف استدرار العطف وتحويل التعامل مع إسرائيل إلى تعامل طبيعي، مثلها مثل أي دولة عربية.
فيما يتناسى هؤلاء أكبر عملية سطو مسلح في القرن العشرين، وهي إخراج شعب من أرضه بقوة السلاح، سفك الدماء وهتك الحرمات التي تعرض لها الفلسطينيون وقتذاك. أليس الأجدر أن تكون الإنسانية إزاء جميع البشر؟ أم أن إنسانيتكم خاضعة لمواقف مسبقة بنيت على الأوهام، ثمّ لماذا لا يجري الحديث عن "يهود العراق" بمعزل عن التطبيع، ألا يعتبر الحديث في هذا الإطار هو تجارة بمعاناتهم وحقوقهم؟.
دعاة التطبيع بإطار اقتصادي
هناك من يقول إن التطبيع مع إسرائيل سيجلب لنا الاستقرار الاقتصادي، وكل متابع للشأن العام يعرف أن لدى مصر والأردن اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وبهذا ينطلق السؤال هنا: ماذا تحقّق لهاتين الدولتين؟ وفي إشارات بسيطة، نستطلع على الإحصائيات الاقتصادية التي جناها البلدين من هذه الاتفاقيات. في مصر وقعت اتفاقية "الكويز" بينها و بين إسرائيل، و كان إجمالي الفائدة المصرية 248 مليون دولار، أي بنسبة 2% من كل التجارة المصرية على مدار 30 عامًا. أما الشركات "الإسرائيلية" التي ساهم بها الإسرائيليون داخل مصر شركتين لا غير و بقيمة 4.8 مليون جنيه مصري، أي ما يعادل 0.01 من كل الشركات المستثمرة داخل مصر. وبالنسبة للشركات الإسرائيلية التي تعمل بنظام المناطق الحرة في مصر وصل عددها على 5 شركات فقط، من أصل 395 شركة عالمية داخل مصر. من ضمن عقود الاتفاقية هو توفير 400 ألف فرصة عمل لليد العاملة المصرية داخل المصانع الإسرائيلية، لكن إسرائيل تعذرت واعتبرت أن هذا العدد كبير، وبعد فترة وجيزة استعانت المصانع الإسرائيلية بعمال شرق آسيويين! فيما وصل عدد السياح الإسرائيليين بمصر 171 ألف سائح في عام 2007 أي بنسبة 1.9% من إجمالي عدد السياح بمصر.
أما الملاحة البحرية الإسرائيلية فازدهرت بشكل ملحوظ، حيث أن السفن والبواخر الإسرائيلية حصلت على حق المرور بقناة السويس بعدما كانت ممنوعة قبل الاتفاقية. كذلك وصل الاكتفاء عند إسرائيل من البترول المصري 2.6 بالإضافة إلى حصولها على الغاز الطبيعي. بينما مصر لم تجني أي شيء يذكر من هذه المعاهدة غير زيادة العجز بالميزان التجاري وزيادة الدين المحلي واستمرار الديون الخارجية التي وصلت إلى 92 مليار دولار، بالإضافة إلى تفاقم العجز بالموازنة العامة.
اقرأ/ي أيضًا: حناجر إسرائيل في بغداد.. إيقاع التطبيع المنبوذ
أما الأردن، التي وقعت معاهدة سلام هي الأخرى، فلم يكن اقتصادها بأفضل من مصر، حيث وصلت ديون الأردن الخارجية في نهاية عام 2018 إلى 39 مليار دولار، وهو رقم كارثي بالنسبة إلى دولة ليست كبيرة كالأردن.
ابتدأ موسم التطبيع الاردني عام 1994 بعد توقيع اتفاقية وداي عربة، هذه الاتفاقية التي ترمي إلى تطبيع العلاقات الاقتصادية بين البلدين، لكن كمن الخبث الاسرائيلي في بنود الاتفاقية بشكل فاق التوقع، حيث تضمنت النقطة الأولى من المادة السابعة في الاتفاقية بندًا يذكر فيه "على الدولتين إيقاف أي حملة من حملات المقاطعة ضد بعض، و يجب أن تعمل كل دولة على مساعدة الدولة الأخرى بإنهاء أي مواقف مقاطعة من أطراف ثالثة ضد أي منهما"، وراحت الأردن تعمل دور الوسيط الاقتصادي بين إسرائيل ودول المنطقة عبر تمرير البضائع الإسرائيلية إلى دول الخليج العربي عن طريقها. ومن أخطر المشاريع الإسرائيلية التي ربطت مصير الأردن الاقتصادي والحاجة الاستراتيجية بالمشاريع التطبيعية مع إسرائيل هو مشروع قناة البحرين ومشروع الغاز. و ترى الأردن تتخبط بأزماتها الاقتصادية منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا، وليس هناك من متأثر إلا الشعب الأردني الذي لم تتوقف تحركاته وحملاته ضد مثل هذه الاتفاقيات التطبيعية.
في الواقع أن التراجع الاقتصادي أساسه داخلي، بسبب السياسات التي تمشي في مسارها الدول، لكن الإنسان يتعجب من "جلد الذات" الذي يمارسه بعض العراقيين والعرب إزاء الكيان الغاصب، بالرغم من امتلاكهم قوة رفض التطبيع كتأييد شعبي، حيث أن أستاذ العلوم السياسية في "الجامعة المفتوحة في إسرائيل"، تمار هيرمان، والذي نشر ورقة في مركز دراسات الشرق الأدنى تحت عنوان "هل قادة المنطقة على توافق مع الرأي العام؟ القضية الإسرائيلية - الفلسطينية"، إذ أفاد هذا التقرير أن 6% فقط من المستطلع آراؤهم في التقرير يريدون التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين، وكذلك يحمّل 80% من "اليمين" و59% من "الوسط" الفلسطينيين مسؤولية الفشل في التوصل إلى اتفاق سلام، لكن تمسك بعض قادة العرب بـ"التطبيع"، هو بالأساس يجري في إطار عشقهم للبقاء بالسلطة، وصناعة دكتاتوريات تتضخم على حساب الدولة، إذ أن من مصلحة الكيان الغاصب وجود حكومات "استبدادية" مفككة وضعيفة، ليبقى هو المهيمن والمسيطر، ويبقى شرطي المنطقة.
تمسك بعض القادة العرب بـ"التطبيع" نابع من التمسك بـ"السلطة" وصناعة دكتاتوريات تتضخم على حساب الدولة إذ أن من مصلحة الكيان الغاصب وجود حكومات "استبدادية"
إنه سلام يراد تطبيقه حسب الإرادة "الإسرائيلية" فقط، والتي تجري في حفلة تنكيل وسيطرة على هذه الشعوب التي لم تحصل على الخبز والحياة الكريمة. وكل سلام يجري بالتطبيع مع إسرائيل وتتم الدعوة إليه هنا وهناك، هو عبارة عن وهم كبير، فهذه مصر التي لديها معاهدة سلام مع إسرائيل، الإرهاب يملأ سيناء فيها، والأعمال الإرهابية تدك مدنها بين الحين والآخر، والضحية هو الشعب المصري فقط بوجود حاكم مستبد يريد أن يبقى في كرسي حكمه إلى أن يموت بمساعدة إسرائيل، كذلك حال بعض الدول التي تروّج للتطبيع أو تدعوا إليه في مساعيها بصفقة القرن أو مؤتمر عرب وارسو،فهي لا تجني لشعوبها شيء، إنما هي فوائد لصالح المستبد لا أكثر.
اقرأ/ي أيضًا:
مؤتمر وارسو.. وزراء عرب يهرولون نحو "التطبيع" وأولويات يحددها ترامب وصهره