سبحانك كل الأشياء رضيت سوى الذل
وأن يوضع قلبي في قفص في بيت السلطان
وقنعت يكون نصيبي في الدنيا.. كنصيب الطير
لكن سبحانك حتى الطير لها أوطان.. وتعود إليها
وأنا ما زلت أطير.. فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر
سجون متلاصقة، سجان يمسك سجان. مظفر النواب، في الحانة القديمة.
المجتمعات تمرض كما يمرض الجسد. ومثلما يتعرّض هذا الأخير إلى اعتلالات ظرفية أو مزمنة، فكذلك المجتمع لا ينجو هو كذلك من هذه الاعتلالات. ولعل التشخيص الذي كتبه الملك فيصل الأول وهو يشخّص اعتلالات "المجتمع" العراقي في ذلك الحين يكتسب راهنيته، وبالخصوص في لحظتنا الحالية على وجه الخصوص. يقول الملك فيصل الأول "أقول وقلبي ملآن أسىً… إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكل شعبًا نهذبه وندرّبه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم أيضا عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل".
منذ المحاولات الأولى لتأسيس الدولة العراقية، ظل هذا المشروع أكثر من قرن يتأرجح وتتقاذفه يد الطغيان من كل جانب
وما يهمني هنا، استخلاص نموذج تفسيري من كلام الملك فيصل الأول. ولعل النموذج التفسيري الذي يمكن أن يكثف هذا النص، هو الانقسام الاجتماعي الذي كان يعانيه العراقيون يومذاك بسبب غياب المؤسسات، بمعنى أن هذه الاعتلالات لم تنشأ من فراغ، وإنما علّتها الجوهرية هي هنا وبالذات: افتقار العراق إلى مؤسسات عصرية. وخصوصًا أن ما كتبه حنّا بطاطو، الذي أورد هذا الاقتباس، يعزز هذا الحال بشواهد كثيرة، ابتداءً من سقوط الدولة العباسية وما تلاها من خراب ودمار طال البنى التحتية لبغداد على يد المغول، ووصولًا لاحتلال العثمانيين، ونهاية باحتلال البريطانيين. فحتى لحظة دخول الجيش البريطاني كان العراق عبارة عن ثلاثة ولايات متفرقة، وكانت طرق المواصلات بين هذه الولايات عسيرة للغاية، فضلًا عن اختلاف الأوزان والمكاييل والعملة المحلية. الخلاصة: لا مواصلات، ولا عملة محلية، ولا ولايات موحدة. وكانت النتيجة شعب منقسم على نفسه. إنه شعب يرزح تحت وطئة العصور الوسطى، شعب منقسم بلا دولة تحميه، ولا قانون يضبط إيقاعه.
اقرأ/ي أيضًا: مجتمع الطاغية والعبيد
مهما كانت ردود الأفعال، التي قد تجرح وجداننا الوطني (لأنها صدرت من الملك فيصل الأول!)، فالشواهد التاريخية تعزز لدينا هذه الحقيقة. فهي ليست شتيمة على أي حال، وإنما تشخيص لواقع الحال. وإذا أضفنا ما كتبه عالم الاجتماع علي الوردي حول طبيعة المجتمع العراقي فستكتمل الحلقة، أعني سيكتمل النموذج التفسيري. وربما سيقودنا هذا النموذج مباشرة إلى إشكالية عويصة لم تحسم منذ عقود، وهي غياب الدولة. أذكر في هذا الصدد سؤال لامع للباحث الألماني روبرت تسيمر، في كتابه "في صحبة الفلاسفة"، مفاده: لماذا سبقت أوروبا الحضارة العربية الإسلامية في طريق التقدم، بينما كانت الحضارة العربية الإسلامية متفوقة زمنيًا في حراكها الحضاري على أوروبا حينذاك؟ يكثّف هذا الباحث اللامع هذه الإشكالية بجواب مثير للانتباه، وهو أن الحضارة العربية الإسلامية كانت تفتقر إلى المؤسسة، والميزة التي تفوّق بها الغرب على هذه الحضارة هي المؤسسة بالتحديد. بمعنى أن الفارق الجوهري بين الاثنين هو المؤسسة؛ ليس التفوق العرقي، ولا ندرة المواهب! بل حين يكون فعلك يخضع للعمل المؤسسي فسيظهر لك مجتمع قائم على العلاقات العقلانية. أي مجتمع مواطني، ودولة حديثة تضبط إيقاع الشعب، بسن القوانين، وتقديم الخدمات، وبناء المؤسسات.
ولهذه الإشكالية ما يؤيدها في العراق على وجه الخصوص، أعني إشكالية غياب الدولة. فمنذ المحاولات الأولى لتأسيس الدولة العراقية، ظل هذا المشروع أكثر من قرن يتأرجح وتتقاذفه يد الطغيان من كل جانب، وكانت النتيجة، كما نراها اليوم؛ مجتمع منقسم على نفسه، تهمين عليه جماعات سياسية، يمكنها أن تفعل أي شيء سوى بناء الدولة، في حين كانت هذه الجماعات في السابق تشكو من المظلومية والتغييب والتهميش. على أي حال، حتى حركات المقاومة المحلية لم تتفق على يوم "النصر"؛ أصرّ الشيعة والسنة على أن يكون لكل منهما نصره الخاص! فمثلما عودتنا هذه الطائفتان على عدم الاتفاق على هلال العيد، انسحبت هذه الفرقة كذلك على قضاينا الوطنية. ليس هذا فحسب، فللأكراد مواقفهم الوطنية الخاصة كذلك؛ فما يقرره الشيعة أو السنة ينبغي أن يكون الأكراد في حلٍ من هذه الالتزامات، أللهم إلّا ببعض التسويات والمكاسب المغرية التي تعزز الوجدان الوطني الكوردي!
لم تعد هذه الإشكالية معلومة ثمينة، فبائع الخضار، وسائق التاكسي، والعطار، يتداولونها كما لو أنها خبزهم اليومي. المثير للدهشة حقًا هو راهنية هذه الإشكالية التي شخصها الملك فيصل الأول. سواء كنّا "جمهوريين" أو "ملكيين"، " قوميين" أو "يساريين" أو "إسلاميين"، لا يمكننا إنكار هذا التشخيص الدقيق الذي يسري في مجتمعنا سريان النار في الهشيم. لكن ثمّة مفارقة غريبة؛ فبينما كان الملك فيصل الأول يشكو من شعب منقسم على نفسه، وعلاج هذا الشعب هو التهذيب والتدريب وبناء المؤسسات، نجد في الأحداث التي تلت غياب الملك فيصل الأول وحتى هذه اللحظة إجماع القوى السياسية على تدمير الدولة وتخريبها لصالح الجماعات الطائفية. المهم في الأمر، فإذا ما أردنا أن نكثّف كل مشاكل الماضي والحاضر، والمستقبل القريب على أقل تقدير، هو غياب الدولة، وغيابها هنا، في هذه اللحظة بالذات، يكتسب صفة التعمّد والإصرار على إبقاء كل شيء على ما هو عليه. أكثر من ذلك: حتى لو أراد المجتمع العراقي الخلاص من هذه المحنة عبر مطالبته بدولة مؤسسات عصرية فسيأتيه الصوت من كل حدب وصوب: لا صوت يعلو على صوت المعركة.
اقرأ/ي أيضًا: