19-أغسطس-2020

تقاتل سلطة الخضراء لإطالة أمد الاحتقار لإرادة الناخب العراقي (Getty)

لا زالت فئات ليست بالقليلة تحكم بالقطع على استحالة قيام الديمقراطية في منطقتنا العربية. وفي العراق أضحت هذه الأحكام علكة مُحَببة يمضغها المتذاكون. وبهذه الطريقة تغدو الديمقراطية نتيجة وليست مقدمة؛ نتيجة لوعي المجتمع، وبخلافه تبقى إمكانياتها منعدمة. ويغدو الشعب على هذا المنوال جامعة كبيرة عليها أن تجتهد لتحظى بالديمقراطية، أو مجمع علمي كبير عليه أن يبرهن نظريًا وعمليًا على استحقاقه لـ""أطروحة" الديمقراطية. لكن التاريخ يقول عكس ذلك، يقول إن الشعوب تابعة لنخبها وليس العكس. والنخب تتميز نوعيًا عن شعوبها، لكن مع ذلك يصر الكثير على أولوية الشعب كركيزة عامة لبناء الديمقراطية. ليس كل الشعب متعلمًا، ولا كل الفئات الاجتماعية على وتيرة واحدة، وعادة ما تكون عينة المجتمع وخلاصته هم علية القوم، ذلك أن الناس على دين ملوكهم، وليس الملوك على دين الناس!

 ثمّة كثير من الحمقى يتكاثرون كما الفطر في مواقع التواصل الاجتماعي جنّدوا أنفسهم لتشويه سمعة انتفاضة تشرين

يقول عزمي بشارة في إحدى الندوات ما مضمونه: ليس تطور المجتمع شرطًا مسبقًا لنجاح الديمقراطية، بل الديمقراطية هي من تكون مقدمة لتطور المجتمع. إن التطورات اللاحقة التي حدثت في الغرب هو نتيجة لمسار الديمقراطية. لقد كانت نسبة الفلاحين في أمريكا أكثر من المتعلمين يوم صادق الأمريكيون على الديمقراطية، يكمل بشارة، على خلاف أوروبا التي تدرّجت فيها الديمقراطية ووصلت إلى ماهي عليه. خلاصة الأمر، أن انتظار نضج المجتمع للمصادقة على الديمقراطية كنظام حكم، ما هو إلّا أحد التبريرات الواهية لإطالة أمد الاستبداد وشرعنة الخرافة القائلة، أن الشعوب العربية قاصرة عن ممارسة الديمقراطية. ولا يقف الأمر على التحليل النظري لدعم الاستبداد والتشكيك بالديمقراطية، عبر المصادقة والتشجيع لهذا الخطاب ودعمه عمليًا إن تطلّب الأمر.

اقرأ/ي أيضًا: مركبة الحكومة والأحزاب وطريق حسان دياب

 ثمّة كثير من الحمقى يتكاثرون كما الفطر في مواقع التواصل الاجتماعي جنّدوا أنفسهم لتشويه سمعة انتفاضة تشرين لاعتبارات سياسية من جهة، ولشرعنة الاستبداد والمصادقة عليه من جهة أخرى، بحجة أن جيل الانتفاضة مشغول بملذاته الصبيانية وإباحيته الجنسية. وهكذا تتحول قطاعات اجتماعية كبيرة إلى متحللين أخلاقيًا بنظر هؤلاء الحمقى. كما لو أن الشعب جحافل من القديسين والملائكة، وهذه الهذيانات التي يلوكونها ليل نهار لا تدعمها وقائع التاريخ. إن التاريخ لم يخبرنا يومًا أن الثورات والانتفاضات قادتها جحافلَ من الورعين، وإنما هي خليط من هذا وذاك؛ ورعون وفجّار، مخمورون وأصحّاء، وضيعون وشرفاء.. لكن يصعب على العبيد فهم هذه الحقائق، بل وضيفتهم أن لا يفهموا على الإطلاق، فالحمق هويتهم العزيزة على قلوبهم، ونقطتهم المرجعية المهمة في فهم الآخر.

حتى أن كثير من الطيبين، ممّن عذّبتهم النماذج المثالية، حكموا بالقطع على أن وضعنا ميئوس منه ديمقراطيًا ولا يحتمل نظام حكم بهذا المستوى الرفيع! ربما صديقنا الطيب أزعجه صوت الجيران، وضجيج الباعة المتجولين، وجهل الناس للذوق العام، فترجم انكساره النفسي إلى نموذج تفسيري أو برهان علمي لاستحالة قيام الديمقراطية في منطقتنا العربية أو في العراق على وجه الخصوص. لكن وبما أنه صديقنا طيب القلب فيعبر عن أحكامه بنحو مباشر، أما بعض المثقفين فيعبر عنها بصوت خافت، وأمام الخاصّة من أصدقاءه، فيعبّر عن احتقاره وامتعاضه لهذه الشعوب الجاهلة، حتّى أن بعض المثقفين سألني ذات مرة: لماذا لا يتطور العرب؟!

لكل جديد تحديات بلا شك، ولا نتوقع لبعض الفئات الاجتماعية من أنها سترتمي بحضن الديمقراطية بدون قيد أو شرط. لكن من الإجحاف لوم العامة؛ ذلك إن النخب هي من تحدث الفارق النوعي وليس غيرهم، وهم من يوجهون سير الأحداث بمساعدة الشعب، لكن كيف يحدث هذا وهم يحتقرون شعوبهم أصلًا! يذكر غسان سلامة في كتابه المهم "المجتمع والدولة في المشرق العربي"، أن المجالس النيابية لم تظهر للعلن دفعة واحدة، ولم تولد من دون شائبة، بل أنها تطورت تدريجيًا في بلدان مثل بريطانيا وفرنسا. ويكمل بالقول إنه قد تتحمل سلطات الاستعمار المسؤولية لأنها لم تتوفر لديها الرغبة الفعلية للتشجيع على الحياة النيابية، أو الثقافة الشعبية لم تكن مستعدة لاحتضان تجربة حديثة غريبة عن سياقها الثقافي، "لكن مسؤولية كبيرة تقع على عاتق النخبة التي كانت مسيطرة آنذاك والتي تميّزت بمستوىً عالٍ جدًا من الاحتقار للإرادة الشعبية والاستعداد الدائم للتلاعب بها".

على سبيل المثال، تقاتل سلطة الخضراء لإطالة أمد الاحتقار لإرادة الناخب العراقي، فحتى لو كانت نسب المشاركة ضئيلة، فسيفوزون رغمًا على أنوفنا، ورغمًا على كل حركة اجتماعية معارضة، فسيكون مصيرها الموت إن طالبت بديمقراطية حقيقية. كانت كثير من الأصوات تندد بهذا الصمت الرهيب للشعب العراقي، ومنهم كاتب المقالة، والكثير من هذه الأصوات المنددة كان لها موقف عدائي أو سلبي على الأقل تجاه الحراك التشريني المطالب بالحرية والعدالة تحت ظل نظام ديمقراطي عادل. ومؤكد لم تكن الانتفاضة تجري على وتيرة واحدة وتلبي جميع طموحاتنا، وسرعة الإجهاز عليها زاد من تعثرها، ولم يمنحها الوقت اللازم لتصحيح بعض إخفاقاتها. والسبب الجوهري وحشية النخبة الحاكمة واحتقارها لإرادة الشعب، هذا الشعب الذي يحاول البرهنة على استحقاقه الديمقراطي، غير أن الحمقى مصرّون على قصوره وتقصيره، هؤلاء ونخبتهم السياسية هم الانسداد بعينه.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

نادي المتذمرين

دولة الدم المستباح ورحلة الحياة المقدسة