13-مايو-2021

عموم الناس لا تهمها القضايا الكبرى (فيسبوك)

"توفي جدي في سنة 1950. قبل وفاته كان يحاول بين آن وآخر التسلل من البيت في غفلة عن أهله ليرجع إلى عكا. وكان عندما يمسكون به في الشارع يقول:

- انا بس راجع لبيتي.. أنا بيتي في عكا.. ليش ما بتخلوني أرجع لبيتي؟

 ويأخذ مفتاحًا من جيبه ويقول:

- ما بتصدقوني.. هذا مفتاح بيتي.. وعندما يعودون به إلى البيت يجلس صامتًا والدموع تسيل من عينيه وتبلل لحيته التي لم تعد جدتي تقصها له كما كانت تفعل في عكا، ويرفض الكلام زمنًا طويلًا. وتوفيت جدتي بعده بثماني سنوات".

هشام شرابي "الجمر والرماد، مذكرات مثقف عربي". مقتبس من مقالة للزميل جابر حبيب.

"ألمجرد أن العرب هربوا؟ منذ متى يعاقَب الشعب على ذلك بمصادرة ممتلكاته ومنعه من العودة إلى الأرض التي عاش عليها أجداده قرونًا؟ ومن ثم لا يمكن أن تكون مطالبة اليهود بأرض إسرائيل مطالبة سياسية واقعية. فلو طالبت كل الأمم فجأة بالبلدان التي عاش فيها أجدادها قبل ألفي سنة لأصبح هذا العالم دارًا للمجانين". أريك فروم. 

صحيح أن الكثير من الناس سئمت الشعارات الفضفاضة حول القضية الفلسطينية، لأنها عادة تدخل في دائرة المزايدات السياسية، ذلك أن عموم الناس في نهاية المطاف تبحث عن النموذج الملموس، لأنهم ليسوا بأنبياء في نهاية المطاف. وصحيح أيضًا أن هؤلاء الناس، الذين هم ليسوا بأنبياء، ومما توضحه الشواهد الواقعية، لا دخل لهم بقضايا الحرية والديمقراطية؛ إنهم لا مشكلة لديهم بدولة عنصرية وطائفية، طالما توفّر لهم العيش الرغيد.. بمعنى أن ما نراه ونسمعه من تعاطف مع قضايا العالم الإنسانية من قبل هؤلاء الناس أنفسهم في مواقع التواصل الاجتماعي، عبر التنديد بسياسات الاستبداد، والوقوف مع الحركات الجماهيرية في العالم، والمطالبة بالحرية والديمقراطية وقيم التنوير، تكذبه الوقائع. لماذا؟ لأننا نراهم في كل مرّة يتعاطفون مع السياسات الصهيونية ضد فلسطين.

فقدان النموذج نتيجته التشتت والضياع،  فنسعى لتمثّل قضايا لا نؤمن بها على الإطلاق تعويضًا عن دونيتنا

 ببساطة شديدة، أنهم معجبون بالنموذج السياسي والاقتصادي الإسرائيلي، ولا شأن لهم بالقضايا الكبرى، ويشعرون بالحزن العميق لو تعرّض هذا النموذج للانهيار، لأن الفلسطينيين، بزعمهم، لا يستحقون العيش، بل ينبغي لهم القبول بمساحة جغرافية ضيقة في فلسطين ليس لها وجود معتبر في الخارطة، وعلى الفلسطينيين أن يتحولوا إلى قطّاع طرق لكي توفرّ لنا هذه الظاهرة مادة دسمة لإدانتهم لاحقًا. ومن ثم نستعين بالإحصائيات العالمية التي تجعل الفلسطيني يأخذ موقع الصدارة بالأعمال الإرهابية، ولكي نغبط الدول المرفّهة، مثل سويسرا، كونها لا تصدر لنا إرهابيين. ولكي تبدأ كرنفالات واسعة لجلد الذات في مواقع التواصل الاجتماعي من أن العرب لا يستحقون الديمقراطية، وأنهم إرهابيون بالطبع، وينبغي أن نثني على كتابات أفيخاي أدرعي، وهكذا دواليك.

اقرأ/ي أيضًا: عن فلسطين التي لا شأن لنا بها!

لماذا تتعاطف بعض الفئات العراقية مع الاحتجاجات العالمية، لكنهم لا يتعاطفون من ضحايا الفلسطينيين؟ ولماذا ينددون بالهيمنة الإقليمية والمذهبية في العراق، بينما لا ينددون بردود أفعال الصهاينة وهيمنتهم شبه الكلية على الإعلام والسياسة والاقتصاد، ولماذا تغدو مشاعرهم الإنسانية عابرة للحدود، بينما تتحول هذه المشاعر إلى انفعالات محلية! لو تعلّق الأمر بالقضية الفلسطينية؟ ولماذا نتعاطف مع ضحايا برج التجارة العالمي، مثلًا، ولا نتعاطف مع ضحايا القصف الصاروخي الفلسطينيين؟ ولماذا تغدو قضايانا "كونية" إذا تعلق الأمر بحدث خارج مشرقنا العربي، بينما نشتم بعضنا وندين بعضنا وتفترسنا الضغائن لو تعلّق الأمر بقضايانا الداخلية؟ إنه الشعور بالدونية حين نخسر النموذج فنتشبث بنماذج ملموسة للتعويض عن هذا الخسران. إن فقدان النموذج نتيجته التشتت والضياع،  فنسعى لتمثّل قضايا لا نؤمن بها على الإطلاق تعويضًا عن دونيتنا. أعني أننا بالجوهر لا نؤمن بقضايا التنوير وحقوق الإنسان وغيرها. إن الناس، بعمومها، تبرهن في كل مرّة، أن القضايا الكبرى ليست من شأنهم، وهم دائمًا يبرهنون، بأفعالهم وأقوالهم، أن ما يفعلوه ليس أكثر"من حشر مع الناس عيد".

إنهم لا مشكلة لديهم لو كانت الدولة العراقية دولة عنصرية وطائفية شريطة أن توفّر لهم حياة مثالية. ونستنتج من هذا: إن الصراع مع السلطة العراقية الحالية، ليس لأنها سلطة طائفية، وليس لأنها تجري بالضد من قيم الدولة الحديثة، وليس لأنها تقمع حرية التعبير، لكن كل ما في الأمر لأنها دولة لا توفر الحد الأدنى من العيش فقط. ومن جهة أخرى،  لا توجد مشكلة فيما لو تم تمليك بعض العقارات لمواطنين من دول الجوار، ولا مشكلة أيضًا من وجود جماعات ضغط تعمل لصالح الدول الإقليمية. لا مشكلة على الإطلاق بوجود لوبي "إيراني" أو "تركي" في العراق. ويبدو كذلك، أنه لا مشكلة من وجود ميليشيات طالما لا تعرّض حياتنا للخطر. يكفي أن تكون الدولة العراقية دولة رفاه حتى لو كانت دولة طائفية مثلًا.

خلاصة الأمر: أن عموم الناس لا تهمها القضايا الكبرى، ولا تعنيها قيم الحق والعدل والحرية، فهي إلى الكسل وطلب الراحة أقرب منها لتمثّل قضايا كبرى بحجم القضية الفلسطينية. المشكل الأكبر هو أن النخب السياسية حولّت هذه القضية الكبرى إلى صور ولافتات في الشوارع، وظلّت أمينة لهذه الثنائية، التي أحرقت الأخضر واليابس: لكي تكون وطنيًا، لا بد أن تكون طاغيًا، ولكي تكون مقبولًا في الخارج، لا بد أن تقمع شعبك، ولكي تضمن سلطتك حتى الممات لا بد أن يكون صوت المعركة هو الصوت الذي لا يعلو عليه أي صوت آخر(وصوت المعركة هنا يعني ترويع الناس ومطاردتهم واغتيالهم وزجّهم بالسجون). في حين أن معركتنا الحقيقية هي معركة الاستقلال النسبي: ان تكون حدودك مُؤَمّنَة، وثرواتك مُصانة، ونخبتك السياسية قادرة على انتزاع حقوقك، لكي يظهر لك جيل يقدّر بحق قيمة القضايا الكبرى، جيل يعي بحق أن القضية الفلسطينية ليست قضية إنسانية وأخلاقية في جوهرها. والحقيقة، كما يذكرها أحد الكتاب، أن القضية الفلسطينية أكبر من كونها إنسانية أو أخلاقية؛ إنها قضية أمن قومي، ذلك أنه حتى اليهود والصهاينة يدخلون قضيتهم في عداد القضايا الإنسانية. إنها قضية يتوقف استقرار المنطقة برمتها عليها، وما عدا ذلك ستبقى الحروب الأهلية تلاحقنا، والأنظمة الاستبدادية تستلهم شرعيتها من هذا الخراب. وعلينا أن لا ننسى أن الفلسطينيين يبحثون عن وطنهم الضائع، وينشدون الاستقرار، وأن ترجع الناس إلى بيوتها، وتنعم بالطمأنينة، مثلما صرخ شباب تشرين في ساحات الاحتجاج "نريد وطن"، فسقط على أثر هذا المطلب عشرات الشباب ولا زالت جهنم العراق تصرخ "هل من مزيد".

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

فلسطين في العراق.. هل يبني الحقد موقفًا إنسانيًا؟

حناجر إسرائيل في بغداد.. إيقاع التطبيع المنبوذ