16-يوليو-2019

انحسرت "النهوة" في الكثير من المناطق لكنها لا زالت تتواجد في مناطق أخرى ولم يسلط عليها الضوء (أ.ف.ب)

لا تزال المرأة العراقية في المناطق الريفية أسيرة للأحكام العشائرية التي تجعلها مكبلة بالأصفاد، وتحيلها إلى سلعة قابلة للاستبدال والتعويض فداءً لحل النزاعات العشائرية التي تنشب بين الحين والآخر. ولعل من أقسى الأحكام العشائرية التي لا يزال الحكم بها ساريًا في بعض المناطق إلى يومنا الحالي، هو حكم "النهوة"، وهي تقليد عشائري يمنع ابن العم بنت عمه من الزواج بشخص خارج أسوار العشيرة أو خارج حدود العائلة، الأمر الذي يتيح لأبناء العشيرة استخدام السلاح الخفيف أو الثقيل لقتلها إذا عارضت بنت العم هذا الحكم المهم والراسخ في التقاليد القبلية.

لا تزال المرأة العراقية في المناطق الريفية أسيرة للأحكام العشائرية التي تجعلها مكبلة بالأصفاد، وتحيلها إلى سلعة قابلة للاستبدال والتعويض

وقبل عدة أيام من كتابة هذا المقال، أدى حكم "النهوة" في محافظة الديوانية إلى مذبحة جرت في أحد أقضية المحافظة، "قضاء سومر". حيث قامت مجموعة مسلحة تقدر بحوالي 25 شخصًا بالهجوم على أحد المنازل السكنية، مستخدمين الرشاشات والبي كي سي، إضافة إلى الآلات الجارحة المختلفة، وذلك بعد أن "نهوا" عشائريًا على إحدى النساء من العشيرة، ونفذوا جريمتهم، إذ أصابوا ثلاث نساء وقتلوا رب المنزل وزوجته التي توسلت بهم محاولة منعهم من ارتكاب الجريمة، لكن محاولتها لم تجد نفعًا بل زادتهم وحشية وقسوة.

اقرأ/ي أيضًا: "نخاسة العشيرة" فوق الدين والقانون.. لماذا تنتحر النساء؟

حيث طلبوا إحضار الأطفال ليشاهدوا مسرح الجريمة وكيف ستقتل النساء والرجل الكبير، وكيف سيمثل بزوجته بعد ذبحها واقتلاع عينيها من محجريها، وقطع يدها بواسط آلة جارحة تعرف بــ"الطبر" وذلك قبل أن يصلوا إلى غرفة رب المنزل ويصيبوه بست إطلاقات نارية قضت على حياته على الفور وهو على سرير المرض، فكانت النتيجة خمس ضحايا وإصابة ثلاث نساء من العائلة. هكذا روت حوراء وهي من ذوي ضحايا الهجوم الذي جرى على منزلهم وخلف اثارًا تحاكي الأثر الذي يخلفه هجوم إرهابي مروع في هذا البلد المبتلى بالموت والبشاعة.

صورة تظهر آثار الرصاص الناري المستخدم من منفذي الجريمة (ألترا عراق)
صورة تبيّن آثار الدماء التي سالت من الضحايا بعد تنفيذ الجريمة (ألترا عراق).

هزت الحادثة محافظة الديوانية وأصبحت حديث أهلها الشاغل، وسط سلطة لا تطبق القانون إلا على الضعفاء، على الرغم من أنه بتاريخ 15 أيار/مايو حصلت حادثة مشابهة في الديوانية، إذ فقدت فتاة حياتها نتيجة لأحكام "النهوة" بعد أن تمت خطبتها من شخص غريب عن العشيرة، وتعرضت لتهديد بالقتل، فما كان منها إلا أن انتحرت بواسطة الحجاب الذي ترتديه، هكذا فضلت الموت الإرادي الذي يجنبها أحكامًا تفقدها إرادتها وتكُبل حريتها وتتحول إلى محض جسد يجرع مضاضة الموت بين الحين والآخر. ناهيك عن حوادث "النهوة" التي لم تظهر إلى الإعلام والتي تجري أحكامها على قدم وساق في عموم العراق.

 

وقبل أشهر، استبشر العراقيون خيرًا من الإجراءات والقوانين الحكومية التي تقلم أظافر العشيرة ونزع سلاحها وتردعها عن ممارسة أحكامها البالية. مثل عقوبة "الدكة العشائرية" والتي تصل أحكامها بحسب القانون العراقي من مؤبد إلى إعدام. فيما تسعى السلطات القضائية العراقية إلى تشريع عقوبات قانونية للحد من سلطة العشائر على النساء حيث اتخذت قرارًا بأن تكون عقوبة "النهوة" وفق قانون الإرهاب، حيث ينص القرار على محاسبة كل من يقوم بهذا العمل وفق المادة الثانية من قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005.

لكن تشريع القوانين لم يعد كافيًا بحكم تكرار هذه الحوادث بين الفينة والأخرى بشكل يجعلنا نعيد النظر بجدية هذه القوانين والإجراءات في معاقبة العشائر "المنفلتة"، ويمكن أن تكون عدم الجدية هذه خاضعة لمزاج السياسيين والشخصيات التي لها ارتباط وثيق بالعشائر فهم لا يريدون أن يقعوا في الحرج نتيجة لفرض هذه الأحكام عليهم، إذ أن معظم السياسيين الذين يتحكمون بمصير البلد ينظرون إلى شيوخ العشائر كصندوق انتخابي كبير، يجعلهم يحظون بكرسي الحكم كل أربع سنوات، بحكم صلة القرابة بينهم وبين شيخ العشيرة ومرد ذلك أنهم فشلوا في كسب ثقة المواطن عن طريق أدائهم السياسي بعد أن أحالوا الدولة إلى مؤسسات عائلية، فعوّضوا موضوع كسب الثقة عن طريق شيوخ العشائر ولهذا نرى أن معظم السياسيين بعد 2003 عمدوا إلى إضافة ألقابهم العشائرية إلى أسمائهم وسعوا إلى شراء ذمم وضمائر الكثير من الشيوخ عن طريق إغرائهم بالأموال والهدايا،  فصاروا يتناقضون في إجراءاتهم هذه، فهم يدعون إلى حصر السلاح بيد الدولة وفي نفس الوقت يهدون شيوخ  العشائر أسلحة فاخرة من خزينة العراق المنهوبة لأغراض انتخابية.
بعضهم ينادون بمبادئ العدالة والوطنية والمساواة واحترام القانون لكن في أيام الانتخابات يتحولون إلى عشائريين أكثر من العشائريين أنفسهم، وتتحول مضايف شيوخ العشائر وقت الدعاية الانتخابية إلى كعبة يطوفون حولها باستمرار، وهذا ما يجعلهم لا يتشددون في تطبيق هذه الأحكام التي توقف الموت الذي يمارس في ميادين القبائل بشكل وحشي، فهمهم الأعلى هو أزلية الجلوس على كرسي الحكم، وهذه هي طبيعة العلاقة المتلجلجة بين هذا الثنائي، السلطة والعشيرة، فهي علاقة يحكمها مبدأ "العصا والجزرة " وتجعلهم في تناقض لا يحسدون عليه بعد أن صارت نزاعاتهم  تحل بواسطة العشيرة، والأمثلة على ذلك كثيرة. ولا عجب والحال هذه أن يتساءل الشعب العراقي إذا كانت الحكومة ضعيفة وغير قادرة عن ردع العشائر وسحب السلاح منها وتهذب أحكامها، فكيف تستطيع أن تنزع السلاح من يد الميليشيات التي أصبحت سلطة توازي سلطة الدولة.

إذا كانت الحكومة ضعيفة وغير قادرة عن ردع العشائر وسحب السلاح منها، كيف تستطيع أن تنزع السلاح من يد الميليشيات؟ 

يخبرنا التاريخ العراقي أن مشاكل العشائر لا تحل إلا من خلال تطبيق القانون بشكل صارم وإظهار هيبة الدولة، فينقل أنه عندما جاء ناظم باشا واليًا على العراق في عام 1910 وجد أن أهم مشكلة يعانيها المجتمع العراقي هو القتال بين القبائل، فلجأ إلى طريقة ظنها كافية لمنعه، وهي أن استحصل فتاوى من فقهاء الشيعة وأهل السنة جاء فيها، أن "الغزو من عادات الجاهلية التي حرمها الإسلام، وأنّ القبائل يجب أن يقلعوا عنه إطاعة لأمر الله ورسوله. وعلى أثر إصدار هذه الفتاوى جمع الوالي شيوخ القبائل في بغداد وقرأ عليهم الفتاوى، وهددهم بالتنكيل الشديد إذا هم عصوها، لكن محاولة ناظم باشا باءت بالفشل إذ عادت القبائل إلى سيرتها الأولى وصار الغزو شائعًا كما كان.

هذه القصة التي ينقلها الدكتور علي الوردي في كتابه دراسة في طبيعة المجتمع العراقي تبين لنا أن العامل الديني غير مؤثر بالشخصية القبلية والتي لها دينها وقانونها الخاص والذي يعرف بــ"السنينة العشائرية"، وهي مجموعة من الأحكام والبنود يضعها رؤساء العشائر وتكون بمثابة الدستور الشرعي، لغرض السيطرة على شؤون العشائر ويوفر لها الأمن داخليًا وخارجيًا، على الرغم من مخالفة هذه النصوص للأحكام الدينية والقانونية لكونها تستند إلى عادات متوارثة من قبل أشخاص قد لا يجيدون حتى القراءة والكتابة ويتحكمون بمصائر أفراد العشيرة.

اقرأ/ي أيضًا: بعد "تجريمها".. هل تنحسر "النهوة" العشائرية في محافظات العراق؟

كما أن وجود القانون غير مؤثر أيضًا مالم يطبق على أرض الواقع وتسبقه حملات تثقيفية واسعة على الأقل مثل الدعايات الانتخابية للأحزاب والتي تصل إلى آخر نقطة في حدود العراق وتصرف عليها عشرات المليارات.

إن الحل الوحيد يتمثل بوجود الدولة القوية التي تطبق القانون على الجميع، وتحتكر السلطة بدلًا من انشغالها باحتكار النهب والاغتناء غير المشروع على حساب المواطن كما هو حال حكومتنا بالضبط، التي جعلت المواطن العراقي يسأل نفسه بين الحين والآخر، أنا محكوم لأي جهة، وسط وجود ممارسات تقوم بها الميليشيات والعشائر ينبغي أن تقوم بها الدولة وحدها، الدولة التي تحتكم وتحل مشاكلها في أغلب الأحيان عن طريق العشائر!. 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

فزاعة العشيرة العراقية.. سيف المحاصصة المشهر

دولة العشائر.. بين فقدان الشرعية واستثمار الهوية