19-ديسمبر-2023
 المقاطعة بالأرقام واحتيال النظام.. جردة حساب لانتخابات مجالس المحافظات

احتال النظام في احتساب نسبة المشاركة بالانتخابات (ألترا عراق)

انقسمت العيون المراقبة لانتخابات مجالس المحافظات العراقية التي جرت عصر الإثنين 18 كانون الأول/ديسمبر 2023، بين مراقب لنسبة المشاركة في الاقتراع، سواء أكان من الداعين للمقاطعة أو المشاركة، وبين متطلّع إلى نتائجها، خصوصًا بعد هزّة انتخابات تشرين 2021. لكن المقاطعة بالأرقام كشفت عن احتيال النظام.

اعتمدت المفوضية على عدد الذين حدّثوا بطاقاتهم الانتخابية بوصفهم الكتلة السكانية الانتخابية 

وبتجاوز النتائج الآن، كنّا نرقب الكتلة السكانية التي ستعتمدها مفوضية الانتخابات في حساب نسبة المشاركين في التصويت، إنْ كانت تشمل من هم فوق 18 عامًا، أو عدد الذين حدّثوا بطاقاتهم وانضموا إلى السجل الجديد، أو من استلموا بطاقاتهم "البايومترية" كما تسمى.

وقرب منتصف الليل، كشف جدول من محطات الاقتراع كافة، عن نسبة مشاركة قاربت 41%، مفصّلة إلى 39% في الاقتراع العام، و67% في الاقتراع الخاص. وفي الأرقام الخالصة، أعلنت المفوضية مشاركة نحو 5.9 مليون مواطن في الانتخابات، استنادًا إلى 16 مليونًا يملكون البطاقات البايومترية سواء استلموها أو لم يفعلوا.

وللوهلة الأولى، تبدو النسبة مقاربة لتلك التي أخرجتها انتخابات تشرين 2021، وأسفرت عن فوز التيار الصدري وتراجع عدد مقاعد القوى الشيعية التي تمركزت في الإطار التنسيقي الحاكم الآن. فالمشاركة آنذاك اقتربت من 10 ملايين وبنسبة 44%، لكن استنادًا إلى 22 مليون مواطن يحق لهم الانتخابات. 

 

ماذا يُخفي تغيير القاعدة؟

  • قاعدة 2021: عدد الناخبين ÷ عدد الذين يحق لهم الانتخاب
  • قاعدة 2023: عدد الناخبين ÷ عدد البطاقات البايومترية 

إذا أزحنا نوايا من يقف وراء تغيير القاعدة المُستَند إليها في احتساب نسبة المصوتين، أي النسبة المعتمدة على المجموع الكلي: من مجموع من يحق لهم الانتخاب في 2021، إلى مجموع من اُستخرجت لهم البطاقات البايومترية في 2023، وتجاوزنا تداعيات ذلك حتى على صعيد مفهوم الديمقراطية وحقوق المواطنين، سنجد أن من بين نصف الشعب الذين يحق لهم الانتخاب، ربعُ هذا النصف هو من شارك في الانتخابات الأخيرة، مع انضمام ملايين من المقاطعين إلى النسبة السابقة.

ارتفعت نسبة المقاطعة خلال عامين من 57% إلى 76%

هناك أرقام كثيرة منشورة حول عدد من حق لهم الانتخاب الآن في انتخابات مجالس المحافظات، وهي 22 و24 و25 و27 و28 مليون بالغ ضمن السن المسموح له الانتخاب، مع الإشارة إلى ضرورة حذف عدد ناخبي إقليم كردستان الذين لم يشملهم الاقتراع الأخير، وإضافة عدد الذين كانوا بأعمار 16 عامًا و17 عامًا في 2021، وصار الانتخاب حقًا لهم الآن. .

مقاطعة الانتخابات العراقية
عدد الناخبين الكلي 22 مليونًا في 2021 (الصباح الرسمية)
مقاطعة الانتخابات العراقية
عدد الناخبين 27 مليونًا في 2023 (الصباح الرسمي)

 

سنأخذ معدل متوسط 25 مليون الذي طرحت المتحدثة باسم المفوضية جمانة الغلاي رقمًا مقاربًا له في تصريح رسمي يوم 2 تشرين الأول/أكتوبر 2021، لنصل إلى النتائج التالية التي أخفاها التلاعب بالقاعدة:

  • عدد المقاطعين في 2021 بلغ قرابة 12 مليونًا من أصل 22 مليونًا.
  • عدد المقاطعين في 2023 بلغ 19 مليونًا من أصل 25 مليونًا (المعدل المتوسط).
  • تتراوح نسبة المقاطعة الحقيقية في 2023 وفق الأرقام المختلفة بين 21% إلى 27%.

وفي حال اعتمدنا معدلًا وسطيًا للمقاطعة، أي 24% من مجموع الذين يحق لهم الانتخاب الكلي، يؤشر ذلك إلى أن نسبة المقاطعة ارتفعت من 57% في انتخابات البرلمان 2021 إلى 76% في الانتخابات المحلية 2023، مع الأخذ بالاعتبار انضمام التيار الصدري، وقوى غير مرتبطة بالسلطة، إلى خيار المقاطعة، ما رفعَ عددَ المقاطعين بمقدار 7 ملايين مقاطع جديد في الانتخابات المحلية.

مع ذلك؛ إليك النتيجة الخالصة من هذه المعادلة الأخرى، استنادًا إلى عدد المقاطعين في 2021 البالغ 12 مليونًا _ 3.6 مليون كردي [عدا من صوّتوا في الاقتراع الخاص ومن كانوا سيقاطعون على أية حال] _ نحو 900 ألف وهو عدد ناخبي الكتلة الصدرية في الانتخابات المحلية = قرابة 3 ملايين انضموا إلى المقاطعين السابقين عدا أصوات الصدريين والكرد.

 

ماذا يُخفي تغيير القاعدة؟

لم أروّج يومًا للمقاطعة أو المشاركة، ولدي نقاش طويل حول ذلك، ولست حزبيًا أو قَبليًا ولا أتحمّس لمن ينتصر بين (المعسكرين)، إنْ صحت التسمية. وبوصفي كاتبًا وصحفيًا يعتمد البحث والتفكير والكتابة، تهمه معرفة الاتجاه العام للمجتمع العراقي، والمقارنة والتحولات، خصوصًا بعد انتفاضة تشرين 2019، وبعد أحداث آب 2022، وبعد "ثورة" ركائز الجسور والتعيينات في حكومة محمد السوداني.

جرى التلاعب بنسب المشاركة في الانتخابات ثم هنّأ سياسيون وتفاخروا بالمشاركة

الانتخابات وأرقامها (شرط الدقّة) هي حزمة استفتاءات شعبية شاملة عن مسارات المجتمع وتحولاته وتحركاته، تغني عن الكثير من الحشو والشعارات. والآن، كما يُفعل في جردة الحساب التي تكشف عمليات الاختلاس والسرقة، شخّصنا هذا التلاعب بالأرقام عبر تغيير القاعدة المُشار إليها أعلاه، لأنه تحايل بُنيت عليه التهاني والتفاخر والإشادة، من مسؤولين وسياسيين فضلًا عن السفيرة الأمريكية لدى بغداد، وقد تُبنى على هذا الاحتيال خطابات عن إنجازات تسوّق كحقائق، خصوصًا مع اختفاء المعارضة السياسية والإعلامية عن الساحة تقريبًا.

وعليه، نطرح سؤالين:

  • هل من مؤشر إيجابي؟

لناحية الثقافة العامة: نعم - إن إطلاق التعيينات بالجملة اعتمادًا على أموال عائدات النفط المرتفعة خصوصًا في الآونة الأخيرة، والهوس في أعمال البلدية وإكساء الطرق ونصب الركائز في كل مكان واعتبار ذلك ثورة عمرانية، وترغيب وترهيب وسائل الإعلام والصحفيين، كل ذلك لم ينجح في إصلاح العلاقة بين المجتمع والنظام السياسي كما تُريد الطبقة الحاكمة. 

والحق، إن الاعتماد على مزايا الاقتصاد الريعي منطلقًا في كسب ثقة الناس، دون عملية إصلاح حقيقية للنظام السياسي، وفتح ملفات الفساد ومحاكمة الفاسدين، وترسيخ مبدأ التداول السلمي للسلطة، لن يصالح الأغلبية الشعبية مع النظام، ولن يبيض صفحة أقطابه، ولن يعيد للانتخابات قيمتها. وهي معادلة إيجابية في مقاييس الثقافة السياسية عامة.

هذا وقد تجاوزنا - بالوقت الحالي - أرقامًا مهمة، مثل تراجع نسب المشاركة في محافظات معينة على حساب أخرى، وتصدّر كركوك قائمة أعلى المشاركين، ومؤشرات تفوّق نسب المشاركة في الأرياف والنواحي والأقضية على حساب مراكز المدن، وهي مؤشرات تشرح وتؤكد معطيات سابقة، وتلفت إلى مستجدات على الأرض.

لم تفلح التعيينات والركائز والضخ الإعلامي في إصلاح العلاقة بين أغلبية المجتمع والنظام السياسي

  • هل علينا أن نفرح ونعد المقاطعة انتصارًا حاسمًا؟

يؤسفني القول: لا. إن التجربة أثبتت عدم فاعلية المقاطعة - فضلًا عن بعض المشاركة - وإن الطبقة التي تدير السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ستحكم رغمًا عن الأغلبية، وبمباركة دولية. فاستخدام السلاح والترهيب والترغيب والمواقف القانونية لم يمنع الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي وبعثة الأمم المتحدة من دعم حكومة القوى الخاسرة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بل الإفراط في دعم مواقفها.

 

أضحت الديمقراطية في العراق حكم الأقلية. وأضحى من يحق لهم الانتخاب هُم من حدّث بطاقته البايومترية، مع إقصاء قرابة 10 ملايين مواطن من حسابات الناخبين المفترضين قبل الانتخابات - الذي لم يُحدّث بطاقته الانتخابية ليس مواطنًا يمكن احتسابه ضمن المحتجين المقاطعين في الدولة الديمقراطية العظيمة. وأضحى من يحسم الحكم في العراق تلك القلة التي حدّثت أولًا، وشاركت ثانيًا، وانتصرت لمرشحيها ثالثًا، والنقطة الثالثة ليست حاسمة أيضًا، طالما وُجدت الصواريخ والمسيّرات والتأثيرات الأخرى التي خبرناها. والحق، إن الوصول أو البقاء في الحكم بالنسبة للأحزاب الرئيسة أهم من الديمقراطية، والفوز في الانتخابات بالنسبة لهم أهم من نسبة المشاركة والمقاطعة، والقلق الذي أظهرته شخصيات سياسية من المقاطعة مؤخرًا سببه الخوف على مزاحمة "المكونات الأخرى" في المناطق المختلطة.

 

إن عزوف الناس عن الانتخابات استفتاء بحق حول شرعية النظام السياسي والحاكمين في العراق؛ لكنه لم يُحدِث تغييرًا عمليًا ولا ضغطًا ملموسًا حتى الآن، على منوال ما حدث في مناطق أخرى في إفريقيا وأمريكا الجنوبية، وسيستمر الحال طالما غابت المشاريع السياسية الناضجة العملية التي ترى ما خلفها وما حولها وأمامها بوضوح، سواء أكانت مقاطِعة أو مشارِكة.