يحدّثني أحد الأصدقاء بأسف؛ أنه كان بالإمكان، لو كانت هناك مشاركة "تشرينية" واسعة بانتخابات 10 تشرين الأول الماضية، لربما حصل التشرينيون، بمختلف أطيافهم، على غالبية المقاعد، ولما حصل خصومهم على شيء.
الخسارة بالانتخابات لا تعني خسارة السلاح وسيبقى السلاح مؤثرًا في القرار السياسي
هذا التصوّر يبدو أنه شائع، ويردّده كثيرون يلقون باللوم على مقاطعي الانتخابات، لدواعي الحرص على أحداث تغيير كبير، يطمحون إليه، ونشترك، ولا شكّ، معهم في هذا الطموح بكلّ الأحوال. لكني أراه تصورًا يفتقر إلى القراءة الواقعية.
وأسباب ذلك يمكن إيرادها في النقاط التالية:
- أولاً: إن هناك، من دون شكّ، تراجعًا في شعبية الميليشيات والتيارات الإسلامية بشكل عام، ولكنه ليس تراجعًا حاسمًا، فمع الهزيمة الصادمة لتيارات كتلة الفتح مثلًا، ولتحالف الحكيم/العبادي إلا أن "دولة القانون" تقدم بشكل مفاجئ في عدد مقاعده قياسًا بالدورة الانتخابية السابقة، كذلك فإن الفائز الأول "الكتلة الصدرية" هو تيار إسلامي ويتبع رجل دين معمّم.
أيضًا تقدم البيانات الصادرة عن مفوضية الانتخابات معلومات تشير، كما في تقرير لجريدة النهار اللبنانية، إلى سوء إدارة للعملية الانتخابية لدى مكوّنات كتلة الفتح، وأنهم لم ينجحوا في تنسيق جهودهم، ما دفع لخسارتهم رغم حصولهم بالمجمل على أصوات عالية.
مع هذه العوامل يمكن إضافة سبب آخر ربما لا ينتبه له البعض، وهو أن اعتماد كتلة الفتح على أفراد الحشد الشعبي وعوائلهم باعتبارهم كتلة تصويتية ثابتة، قد لا يكون ضامنًا أكيدًا على طول الخطّ، بسبب الشعور المترسّخ عن العضو في الحشد الشعبي، مع توالي الأيام، بأنه عنصر أمني تابع للدولة، وليس للميليشيا الأصلية التي جاءت به إلى هيئة الحشد الشعبي، ما يخفّف من مديونيته الأخلاقية للجهات السياسية، ويحرّر قراره السياسي، خصوصًا مع عملية التصويت السري التي لا يراقبها أحد.
على أية حال، فإن الكثير من الأصوات التي حصلت عليها "دولة القانون" حسب بعض القراءات، جاءت من هذه الكتلة التصويتية التي كانت ملكاً لـ"الفتح".
اقرأ/ي أيضًا: حركة امتداد.. بشارة لم تكن بالحسبان
- ثانيًا: لربما يمكن القول إن الفارق في هذه الانتخابات هو تراجع حظوظ الجماعات السياسية ذات الأذرع العسكرية المسلّحة. ولكن الخسارة بالانتخابات لا تعني خسارة السلاح، وسيبقى السلاح مؤثرًا في القرار السياسي، ولنفترض أن التشرينيين والعلمانيين المستقلين حصلوا على غالبية الأصوات في هذه الدورة، فمن سيحميهم من غضب الكتل الخاسرة، ولدينا اليوم، في مشهد ردات فعل كيانات الفتح واعتراضهم على نتائج الانتخابات، دليلًا ساطعًا على ما يمكن أن يواجهه التشرينيون الذين لا يملكون ميليشيا تحميهم، أو توازن الرعب مع خصومهم، كما لدى التيار الصدري مثلاً، الذي لولا قوّته العسكرية الوازنة، لما بقي التوتر في الشارع مع أنصار الفتح عند حدوده المنضبطة نسبيًا حتى الآن.
إننا نشهد توترًا بين كيانين سياسيين يملكان جيوشًا موازية لجيش وشرطة الدولة الرسمية، ولا تستطيع هذه الدولة أن تفرض إرادتها على أحد منهما، بل هي تنقاد طائعة لإرادة القادة السياسيين/العسكريين. فكيف تحمي دولة بهذه الشاكلة مرشحًا لا يملك ميليشيا ولا أي جهة تدافع عنه؟!
- ثالثًا: إن هناك جمهورًا واسعًا قاطع الانتخابات عن وعي وبناءً على موقف سياسي، وهؤلاء في غالبيتهم لم يجدوا في الشخصيات والتيارات السياسية المشاركة في الانتخابات أي مرشح يستحق أن يصوتوا له. ولهذا جاءت نسبة التصويت متدنيّة. وجزءٌ كبير من هؤلاء يتابعون ويؤيدون التيارات الأكثر ثورية في تشرين، والتيارات الأكثر وضوحًا في موقفها من الميليشيات والاسلام السياسي بشكل عام.
نعم، أن عدم مشاركة تشرين بشكل واسع في الانتخابات ربما طمأن الأحزاب الإسلامية المليشياوية، وأعطاها شعورًا بأنها ستنفرد بالناخبين، ولكني أزعم أنه لو كان للتشرينيين موقفًا موحدًا يدفع للمشاركة في الانتخابات، لرأينا جوًا أكثر عدائية من قبل الميليشيات، ولربما يتطور إلى استهداف للمرشحين أو تهديدهم.
في الحقيقة؛ إن التحولات الكبرى لا تستجيب لمزاجنا الشخصي، أو لمقاييسنا الزمنية القصيرة، وعلى الرغم من قناعتي أن الزمن ليس في صالح الأحزاب الإسلامية ولا ميليشياتها، وأن التيارات المشابهة لتشرين ستزداد مع دخول أجيال جديدة من الشباب العراقي إلى النشاط المدني والسياسي، كما حصل خلال انتفاضة تشرين، فإننا لا يجب أن نتوقّع الشيء الكثير من هذه الدورة الانتخابية والبرلمان الناتج عنها. فالكيانات السياسية الكبرى ستحرص على إعادة إنتاج التركيبة نفسها للنظام السياسي، وتقسيم المنافع والمصالح، ولن تكون متحمسة كثيرًا لأحداث ثورة في منظورها تجاه المشاكل الكبرى التي تعصف بالبلد.
إن النواب التشرينيين وأولئك المستقلين القريبين من روح تشرين، سيكون عليهم عبء كبير في محاولة الاستفادة من مواقعهم لتأثيث المستقبل
يبقى أن نقول إن النواب التشرينيين وأولئك المستقلين القريبين من روح تشرين، سيكون عليهم عبء كبير في محاولة الاستفادة من مواقعهم لتأثيث المستقبل، وتطوير العلاقة مع الشارع التشريني، لا الغرق في دهاليز الحاضر ومصالحه الضيّقة، الذي تجيد أحزاب السلطة الدوران فيها.
اقرأ/ي أيضًا: