بداية لا تعتبر كلمة "بشائر" من قبيل الدلالات المفرطة بالتفاؤل، ولا تعني بالضرورة الوصول إلى الغاية التي كنّا نطمح لها. ولا يعني أننا نوهب صكوك الغفران للحركات النائشئة والمستقلين المنضويين تحت لواء احتجاجات تشرين ووصلوا إلى البرلمان، بل نمنحهم الثقة والقبول في هذا الماراثون الصعب، فالأخطاء لا يمكنها أن ترى النور لولا التجربة التي تكشف قدرة النظرية على الصمود.

فئات واسعة في المجتمع العراقي أدركت ضرورة ضخ دماء جديدة في الحكومة الجديدة لإضفاء بعض الحيوية على هذه العملية السياسية المعقدة

 كل ما في الأمر هي لحظة لا تخلو من إيحاء بهذا الانتصار النسبي الذي حققه الجيل الجديد وهو يخترق المنظومة الاجتماعية  المُمانعة ويخلخل جزء من الشرعية التي كانت تغطي عددًا من الفصائل السياسية الحاكمة في الدورة السابقة. وهذا يعني، مع الحذر الشديد من التفاؤل المفرط، أن دلائل الاختراق لهذه المنظومة السياسية العصية باتت وشيكة إلى حد ما رغم طول الصراع وجسامة التحديات.

اقرأ/ي أيضًا: شباب العراق.. التعددية والاختلاف في عالم مجنون

ولأننا نرزح تحت وطأة كابوس جاثم على صدورنا ويحاول قتل كل ما هو نبيل وخير في الحياة السياسية والاجتماعية.  فننظر لأي محاولة نبيلة مهما كانت صغيرة على أنها بشارة خير. وبالتأكيد هي ليست بشارة على الطريقة الخلاصية وإنما خطوة عملية مهمة للغاية ستفتح الطريق واسعًا أمام الجيل الجديد.

رغم التصريحات الدولية التي أقرّت بالنسب المتدنية للأقبال على الانتخابات، لكنّي، كمواطن عراقي، اعتبرها أهم حدث انتخابي منذ سقوط البعث، لأنها اثبتت لنا أنه حتى الجمهور العقائدي لا يبقى على نفس المطاولة والثبات، ويمكنه أن يزهد بتنظيماته الدينية التي اتخمته بالشعارات. ومن جانب آخر لقد أثبتت هذه الانتخابات الحجم الحقيقي لبعض الفصائل السياسية، وهذا كله بفضل الجيل الجديد الذي يتسم بالعناد والجرأة والقابلية على اجتراح الممكنات.

وعلى الرغم من رهاني المستمر على قوة الجمهور العقائدي وقدرته على قلب الأحداث، إلّا أنّني لست بهذه الحدة بالوقت الحاضر، والسبب يكمن في الارتهان للواقع وليس للتجريدات الذهنية أو الأحكام القطعية. فمن يستند على الوقائع تغدو أفكاره، حتى لو كانت نظريات محكمة، قابل للنقض والتبديل. هذا الاستنتاج لا يقلل من قوة التنظيمات العقائدية، لكنه بذات الوقت لا يقلل من فرضية انحسار الحاضنة الشعبية العقائدية من جهة، واتساع رقعة الجمهور الوطني الذي يرفض أي تبعية سواء كانت دولية أو إقليمية.

وبنفس السياق يمكن القول إنه كلما ضعفت التنظيمات العقائدية يُفترض أن تملى فراغها وضعفها قوة التنظيمات الناشئة تحسبًا للوقوع في الدائرة المغلقة. وما أتكلم عنه للمستقبل بالتأكيد، ذلك أن فئات واسعة في المجتمع العراقي أدركت ضرورة ضخ دماء جديدة في الحكومة الجديدة لإضفاء بعض الحيوية على هذه العملية السياسية المعقدة. مؤكد أن الوضع ليس ورديًا،  لكن لو كان الأفق الذي نتحرك من خلاله هو روح التضامن والإحساس بالمسؤولية وترك المناكفات الفيسبوكية لاختصرنا الكثير من الزمن عبر ترحيل الأهواء النفسية لقوت آخر! وقد علمتنا التجارب معنى أن نكون متفرقين يكفّر أحدنا الآخر.

 فلنذكر بعضًا من هذه الأهواء النفسية: المفارقة المضحكة أن المُعَذّبين بجهلهم كانوا ولا زالوا يعتاشون على التجاوز علينا بحج واهية، من قبيل أننا "صدريون" نلبس طاقية الإخفاء لتمرير الأجندة الصدرية! كما لو أن الصدريين منظمة سرية. ولقد قلنا سابقًا، ولا زلنا مصرين على ذلك - مع الأخذ بنظر الاعتبار الاستنتاج أعلاه- إن الجماعات العقائدية تنشط وتتضامن بشكل مضاعف لو تعرض وجودها للتهديد، وستستعمل كل الطرق وتظهر أسوأ ما فيها للدفاع عن وجودها، ولا سبيل إلا بوجود تنظيمات موازية تكون منافسًا سياسيًا لها بمعزل عن الخصومات السياسية.

 ولأننا نغطس في ثقافة شعبوية تتغذى على الانفعال والحماس لا نفرق بين وصف الوقائع كما هي وبين أهوائنا النفسية، فيغدو الشخص الذي يصف المخاطر ويحذر من الانجرار وراء الانفعال مجاملًا! ماذا كانت النتيجة؟ لقد حصد الصدريون أكثر من سبعين مقعدًا بعدد ناخبين لا يتجاوز الـ 670 ألف ناخبًا لأنهم فهموا لعبة التنظيم جيدًا، بينما انشغلنا نحن بمناكافات صبيانية تافهة وغبية يتورع منها أبسط المراهقين.

  ولا بد من الاعتراف هنا، لقد أخطأتُ، كمواطن يسعى للتغير، حين فضلت خيار المقاطعة ولم أعط صوتي للتنظيمات الجديدة، وبصراحة شديدة كنت جاهلًا عن قراءة المشهد الانتخابي ولم أكن أتصور أن بعض التنظيمات التشرينية ستحقق هذا الانتصار النسبي. وهذه بشارة أخرى، وهي أن نتعلم على التفكير من دون أحكام مسبقة، وندرك جيدًا من أننا لسنا أنصاف آلهة.

غير أن اللافت بالموضوع هو بقاء الثرثارين في مواقع التواصل الاجتماعي على نفس المنوال، والمحزن أن هؤلاء لم يقدموا شيئًا لا لأنفسهم ولا للآخرين  سوى سمومهم النفسية وفضلوا أن يبدعوا دلالات جديدة لمفهوم القطيع. ووصل بهم الأمر حدًا أن يتطاولوا حتى على التنظيمات الجديدة المنضوية تحت شعار تشرين، ولا زالوا يشتمون كل من يحذر من الخطابات الانفعالية تجاه الخصوم السياسيين، وهذه بشارة سيئة للغاية لأنها ستقلل من حظوظ التنظيمات الناشئة وتقلل من حجم الحاضنة الشعبية لهذه التنظيمات. لذا ينبغي الحذر من هذه الأصوات النشاز.

البشارة الأكثر أهمية هي إمكانية وصول الجيل الجديد والمطالبة بحقوقه المهدورة تحت قبة البرلمان

المهم في الأمر؛ إن البشارة الأكثر أهمية، والتي أرجعت لنا الثقة مجددًا، هي إمكانية وصول الجيل الجديد والمطالبة بحقوقه المهدورة تحت قبة البرلمان. لذلك، ولأجل المضي قدمًا بمعزل عن العدميين، ينبغي التفكير بأهمية التضامن في الوقت الحاضر، أما أصحاب الشائعات، الذين أشبعونا شتمًا وتخوينًاـ ليس لنا كلام معهم.

اقرأ/ي أيضًا: 

أصدقاء الديكتاتور.. عرس انتخابي أم إيماني؟

البحث عن عالم أفضل.. تشرين أنموذجًا