15-سبتمبر-2022
الهوية الشيعية

أحداث الخضراء عمقت أزمة الهوية (Getty)

منذ تغيير النظام السياسي في العراق عام 2003 وحدوث تغيير أساسي في تركيبة نظام الحكم، والخطاب الشيعي يدق ناقوس الخطر حول هويته التاريخية التي تواجه مأزقًا داهمًا. فبعد بروز الهويات الفرعية في العراق بشكل لافت وبخلاف ما كان شائعًا من تمتع الشيعة بعد سقوط نظام البعث بأريحية نسبية، تلاشت تلك الأريحية بعد اجتياح عصابات "داعش" لأجزاء واسعة من العراق عام 2014 وتصدر الهويات الفرعية للمشهد السياسي. وبالرغم من الانتصار  الكبير والحاسم على هذه القوى الظلامية بعد تشكيل كيان مسلح من قبل المؤسسة الدينية الشيعية بعنوان "الحشد الشعبي" وتبنيه رسميًا من قبل النظام السياسي العراقي، إلا أنّ المنابر والمنصات والخطابات داخل مراكز قوى "البيت الشيعي" بشقيها السياسي والديني، وبتقديمها لمضامين دينية أو سياسية أو حتى اجتماعية ونفسية، تتحدث عن خطر مستمر يحيق بهذه الهوية، مذكرةً في كل مناسبة وعلى أكثر من صعيد، أن على جميع الشيعة التوحد تحت راية المذهب لدرء (الفتنة) ورص الصفوف، بالخصوص بعد أحداث "تشرين" أو "عاشوراء" الأخيرة؛ والسؤال المهم بعد هذه المقدمة: هل أنّ ما تستشعره مراكز القوى تلك من وجود خطر على هوية الشيعة التاريخية حقيقي أم مفتعل؟

وقعت "الذات الشيعية" بتناقضات هائلة بعد إمساكها بالسلطة في العراق

والجواب عن هذا السؤال قد يكون متسرعًا إن لم نشخص ـ من حيث المبدأ ـ مكمن أو جوهر هذا الخطر المفترض، فالخطر الحقيقي هو إدراك "الذات الشيعية" لهشاشة تلك الهوية ومأزقها الداخلي، فالهويات بحسب  (د . علي الصلابي) لها تعريفات شتى قد يكون بعضها في ظاهره التضاد، وفي باطنه الانسجام والتكامل، فالهوية تشير إلى التميز؛ أي إلى ميزات الفرد أو المجتمع عن غيره، وهي بنفس الوقت تشير إلى الجوامع المشتركة، والخواص التي تجتمع حولها هوية اجتماعية ما لها ما يميزها عن غيرها، أي أن الهوية تعبر عن كل من الميزات الفارقة والعلامات المميزة التي تمنح الخصوصية وترسم الحدود بين الديموغرافيا البشرية، وعن السقوف الجامعة ومناطات الاشتراك والاتفاق عند جماعة أو أمة ما، وفي حالة الهوية الشيعية فقد انكشفت هشاشة موقفها الحالي بعد تغيير عام 2003 وكم التناقضات الهائل الذي وقعت فيه الذات الشيعية بعد إمساكها المريع بالسلطة في العراق، هشاشة ناجمة عن توارث تاريخي لعقد نفسية انتقلت بعيدًا لأجيال لا شأن لها بما حدث في ذلك التاريخ السحيق (إبان صدر الإسلام) وأن جريرتها الوحيدة أنها وجدت نفسها سجينة عقيدة (المظلومية التاريخية) وأن تلك (المظلومية) بمثابة حمل أو أمانة يتعين استمرارها من جيل لآخر، إلى مستقبل غير معلوم، ودون  الاستمرار بالمحافظة على تلك (الأمانة) لن يكون لتلك الهوية أي معنى، مما يجعل تلك الذات الشيعية تحت ضغط خطر مستديم.

وبعد نقمة الجماهير (الشيعية في جلها) في وثبة تشرين ضد أحزاب السلطة العراقية تصدعت جدران الهوية  ووقعت الذات الشيعية  في حيرة من أمرها بين ماضٍ طالما تغنى بأمجاد معارضة السلطات السياسية على مر التاريخ، وحاضر سلطة دنّس تلك الذات وكشف هشاشة مرتكزات هويتها، في حين أن انتفاضة الصدريين فيما تم تسميته بـ"ثورة عاشوراء"، والتي  تم فيها توظيف التاريخ من قبل أطراف الصراع توظيفًا مفعمًا بالاستعارات الدينية، أدت إلى انقسام الذات الشيعية إلى ذوات أصغر بحسب توجهاتها السياسية، فيما بدا وكأنه أخطر تاريخ وجودي في تاريخ الشيعة.

وليس نافلًا من القول الإقرار بأن سفك الدماء الذي حدث خلال أعمال العنف الأخيرة (30-31 آب) داخل المنطقة الخضراء بين جماهير التيار الصدري ومقاتلي الحشد الشعبي، أظهر مدى حاجة الجماهير الشيعية إلى السلام والاطمئنان بعيدًا عن أي مزايدات سياسية أو شعارات دينية، مما عمّق أزمة الهوية وزاد في حيرتها وأثبت أن تبني العامة لأي موقف ثوري (على غرار ثورة الحسين)   أمر مجانب للحقيقة ويخلو من أي واقعية، فتبني المواقف الثورية على مر التاريخ (في جوهره) تبني نخبوي ليس للجماهير فيه ناقة ولا جمل، وأن حشر تلك المواقف الثورية في ذاكرة وهوية الجماهير الشيعية بشكل قسري أو رمزي لن يزيد تلك الهوية إلا ضعفًا وهشاشة. قد يكون بناء وعي جديد يمهد لإعادة بناء هوية شيعية تتماهى مع تطورات العصر ضربًا من الوهم والخيال، بالخصوص بعد تنامي صراعات الهوية بين الإثنيات المختلفة في العالم اليوم، وتمترس تلك الإثنيات خلف هوياتها التاريخية، والذي يبدو أنه أمر مفهوم، إلا أنّ التخلي عن أي أمل للتغيير قد يقتل أي محاولة مستقبلية للنهوض بذواتنا من هذا الواقع المأزوم والبائس.