أتذكر جيدًا عندما غيّر النظام السابق اسم العراق من الجمهورية العراقية إلى جمهورية العراق، محاولة منه لتحويل الوطن إلى ذكر، ربما تصوره أنه قوي ورشيق القامة بشعر أسود وعينين سوداوين واسعتين، حالق اللحية بشارب ستاليني مع بيرية عسكرية كما ظهر رجال الأمن في مسلسل "ذئاب الليل". الوطن الذكر صورة متخيّلة، الوطن بذاته صورة متخيلة أيضًا تتشكل بوعينا قبل أن يكون واقعًا موضوعيًا نتفق عليه في حوار مؤجل بسبب الحروب والخطوط الحمر التي يضعها دائمًا من يمتلك السلطة.
طرح شباب تشرين شعار "نريد وطن" ويقول الحشديون إنهم يدافعون عن الوطن كما يردد الكثير من الإسلاميين بأن لا تناقض بين إسلاميتهم وفكرة الوطن
كتب الصحفي والشاعر "أحمد عبد الحسين" رئيس تحرير جريدة الصباح مقالًا بعنوان "العراق المشكوك به"، وهو يتساءل عن فكرة الوطن التي ظلّت تحت طاولة الشك من قبل الأحزاب السياسية وأيديولوجيات مختلفة بين مشروع أممي شيوعي أو إسلامي أو مشروع عروبي عند القوميين. لا اتفق مع "أحمد عبد الحسين" في طرحه، لكن المقال أضاء فكرة جميلة للنقاش، وهي ذلك التنوع في فكرة الوطن ضمن إطار مشاريع مختلفة، وهنا بدأت أسأل نفسي: ما الوطن؟
اقرأ/ي أيضًا: هل يوجد لدينا نظام سياسي؟
طرح شباب تشرين شعار "نريد وطن"، بينما يقول الحشديون إنهم يدافعون عن الوطن، كما يردد الكثير من الإسلاميين بأن لاتناقض بين إسلاميتهم أو "شيعيتهم" أو "سنيتهم" وفكرة الوطن، حتى أن "حسّان عاكف" في رده على "أحمد عبد الحسين" فرّق بين "الأممية ومفهوم الكوزموبوليتية" والتي يستخلص منها أن أممية الحزب الشيوعي لا تتناقض مع وطنيتهم المشهودة. يؤمن الكرد أيضًا بوطن لهم وضع خاص به يضمن استقلالهم الجغرافي والمالي والثقافي، فيما يذهب سياسيو العرب السنة إلى أن الوطن هو جزء من وطن قومي عربي كبعد استراتيجي بوجه القومية الفارسية والتركية.
هل الوطن كائن هلامي بلا ملامح، أم مخلوق خرافي كطائر الفينيق الذي يظهر من تحت الرماد بين سقوط وآخر؟ هل هو فكرة ثابتة جامدة أم مشروع بصيرورة (process) يتمّ تشكله حسب الظروف الموضوعية؟ هناك شيء ثابت تاريخيًا، وهو أن مفهوم الوطن كفكرة حديثة ظهرت في صلح وستفاليا 1648 بعد حرب الثلاثين عامًا، وجاءت لنا الفكرة مع البريطانيين كجزء من مشروع بناء الدولة الحديثة.. هي فكرة متغيرة وغير ثابتة، ذلك هو السبب الذي جعل "أحمد عبد الحسين" يصفها بـ"المشكوك بها"، وفي رأيي أنها ليست سوى رؤى مختلفة عن فكرة الوطن والوطنية وليس محل شك أو نقاش. الذين يؤمنون بفكرة الوطن الثابتة المرتبطة بعرق أو دين أو أيديولوجية محددة هم التقليديون الذين ينتهون بحرب كالألمان مثلًا.
فكرة الوطن التي تشكلت بعد 1921 في العراق وكانت مع الأسف إقصائية؛ قوميًا حين اختزلت بالعروبة، أو دينيًا اختزلت بالثقافة الإسلامية، وذكورية في إقصاء المرأة على طول الخط، وأبوية في إقصاء الشباب على طول الخط، وطبقية حيث تشكل من خلال الطبقة البورجوازية على فترات مختلفة مقصية شرائح اجتماعية كبيرة من التمثيل. كان السياسيون يشكلون فكرة الوطن من خلال فكرة ثابتة لا جدال ولا نقاش فيها، وعلى العكس، المفهوم الحديث للوطن هو أنه فكرة متغيرة قابلة للتعريف والتجديد والتحول مع الظروف الموضوعية.
مفهوم الوطن بالنسبة لك يختلف عن مفهوم الوطن بالنسبة لي. ربما ترى الوطن فكرة أو أرضًا أو شجرة، ذكريات تحن إليها وأهل تشتاق لهم، وربما أرى الوطن ذلك التاريخ الضارب في القدم وتلك الحدود المقدسة التي يجب أن نحافظ عليها، كلنا يحمل فكرة عن مفهوم الوطن، ولكن، يجب أن نخرج من ذلك الإطار الذاتي لمفهوم موضوعي أوسع عن فكرة الوطن، الوطن الذي يجب أن نتفق على شكله وحدوده ومضمونه وكل شيء فيه، لنعرف بعدها مفهوم الوطنية والمواطن.
إذًا، الحل بسيط، ليس علينا سوى الجلوس للاتفاق على هذا المشروع المسمى "وطن". يجب علينا أن نتحاور، والحوار يجب أن يكون تواصليًا تحكمه شروط المساواة والتفاوض بالمعنى الهابرماسي. علينا أيضًا أن نفتح المجال العام لذلك الحوار بما فيها المكان العام، كساحة التحرير، لطرح فكرة الوطن للتداول من خلال التنافس دون إقصاء فئات اجتماعية، جندرية أو أيديولوجية حسب مفهوم نانسي فريزر لفكرة الجمهور المضاد والتنافس. علينا فتح المجال العام لحوار تداولي دون خطوط حمر تذكر أو إقصاء أو عجرفة أو أي شيء آخر عدا أن نتفق ونعيد تعريف الوطن الذي يجمعنا ولا يقصي أحدًا بسبب دينه أو عرقه أو جنسه كما حدث مع الأقليات والأيديولوجيات والطبقات الاجتماعية. الوطن فكرة تتشكل، نحن من يشكلها في إطار سياسي اجتماعي ثقافي وفي مجال عام تضمن الدولة حقوق الكل فيه للتواصل والتنافس والحوار.
اقرأ/ي أيضًا:
الواقع العراقي وشروطه المُعَقّدَة
تضامنات سياسية مٌزَيّفَة