12-يناير-2022

ما يجري في العراق لا يسعفنا بتعريفه أي معجم سياسي على وجه الأرض (فيسبوك)

الاستبداد في كل بقاع الأرض، وفي كل أحداث التاريخ هو متساوٍ من حيث النوع. لكنّه يختلف بين ثقافة وأخرى من حيث الدرجة. بالتأكيد ليس المقصود هنا المفاضلة بين درجات الاستبداد، أو محاولة الترويج له، لكن الاستبداد، كما أزعم، يتّخذ أشكالًا مختلفة في العالم يأتي معها شيء مغاير لما يحدث عندنا. وهذا لا يعني إمكانية استنتاج نموذج نظري للاستبداد ومحاولة تعميمه بحجة معقوليته! فالمقارنة بين نماذج استبدادية معينة بنماذجنا السياسية ينطوي على نوع من الطرافة والمفارقة تقودنا إلى نتيجة أنه حتى في هذه النماذج التي تقع خارج ثقافتنا لا يوجد شيء يشبهها في منطقتنا. هنا يكمن جوهر المفارقة.

الحماقات السياسية في العراق لم تنتهِ بإعدام المستبد صدام حسين بل باقية وتتمدّد

 إذن، فمن حيث الدرجة، كما نوّهنا، فثمّة مستبد أحمق لا همّ له سوى عبادة ذاته حتى لو كلّف البلد أثمانًا باهظة تتمثّل عادةً بالحروب وغيرها من الحماقات التي يشتهر بها طاغية العراق السابق على وجه الخصوص. فبذكر هذه الخصال السيئة سيتبادر، بالتأكيد، وعلى الفور صدام حسين، فحماقاته أشهر من أن تُذكَر. إلا أن الحماقات السياسية في العراق لم تنتهِ بإعدام المستبد بل باقية وتتمدّد ولله الحمد!

اقرأ/ي  أيضًا: الوطن بوصفه منفى

 في الضفة الأخرى من هذا العالم، عادة ما تُشّن الحروب، سواء بقرار من المستبد أومن حكومة ديمقراطية، لأسباب استراتيجية؛ كالصراع على النفوذ، أو التخلص من قرارات دولية جائرة، أو ترسيم للحدود وما شابه ذلك. وأيًا كانت نتائج هذه الحروب الوخيمة وضحاياها المساكين، فهي تتخذ طابع التخطيط لشيء ما يندرج في عداد الفكر الاستراتيجي، ومهما جادلنا في عبثيتها وقساوتها تبقى حروب التاريخ الحديث (كالحربين العالميتين) تندرج في هذا الغرض المذكور. والدليل أن العالم تغيّر بعدها، وكان الدرس البليغ الذي تعلّمته الأنظمة الديمقراطية، هو أن الحمقى وحدهم من لم يأخذوا العبرة من التاريخ، وهذا الأخير لا يحمي الحمقى. ومن المؤكد أن الاستبداد العراقي (أو "النظام السياسي" المجهول المعالم!) خارج أحداث التاريخ، وما يجري على العالم لا يجري عليه بالضرورة.

 هذا من جهة الحرب، أما من جهة السِلم وطبيعة النُظُم السياسية التي تعمل لصالح شعوبها في الحياة المدنية. فعلى سبيل المثال، أن الاستبداد الصيني يرتبط بجذر تاريخي عميق يتصل بذاكرة الصينيين حول شكل الحاكم؛ فهو الإمبراطور، و"ابن السماء"، و"الأخ الأكبر"، وبمقتضى هذا العقد التاريخي المُبرم في لا وعي الصينيين كأمّة حضارية موغلة بالقدم، يقوم الحاكم المستبد بمقايضة فريدة: نظام سياسي قائم على الحزب الواحد، وهو الحزب الشيوعي الصيني، والذي يبلغ تعداد لجنته المركزية زهاء سبعين مليون عضوًا حزبيًا. وقد قام هذا الحزب، منذ بداية تأسيسه، بإرجاع الإمبراطورية الصينية إلى سابق عهدها، ثم نهض بالصين في مختلف المجالات، وأصبحت الصين الآن القوة الحضارية الفتية والواعدة لقيادة العالم، والقضية قضية وقت حتى يبسط هذا التنين نفوذه الكامل.

ومقابل ذلك كله يعمل الصينيون بمبدأ الطاعة والولاء. و مؤكد أن هذا الحال لا يشبه طاعة بعض العراقيين لأسيادهم، فهي طاعة غير مشروطة على الإطلاق.

وحينما نلفظ مفردة "استبداد"، فهو جريًا على عادة التحليل المُتّبَع في المعجم السياسي الغربي. أما بالنسبة إلى الصينيين فلا مفردة يتوفر عليها معجمهم السياسي تشير إلى المستبد؛ فقيمة الإنسان متأتية من إحساسه بالعدل طبقًا للفلسفة الصينية وليس حيوانًا ناطقًا حسب السياق اليوناني. وربما يصح لنا أن نقول: العدل يسبق العقلانية في الفلسفة الصينية. ولعل هذه الأسبقية متأتية من هنا: أن تكون عقلانيًا فهذا لا يعفيك أن تلقي قنبلة ذرية على شعب كامل وتبيده عن بكرة أبيه، إلا أن الإحساس العميق بالعدل يمنعك من ذلك بكل تأكيد. من هنا، على الأرجح، أن الصين لم تتورط بحروب استعمارية، رغم أنها كانت متفوقة في الملاحة البحرية.

 المهم، أن صفة العدل هي جوهر الحاكم وليس شيئًا آخر. وستبقى هذه الفوارق الحضارية تلعب دورًا محوريًا في تباين النُظم السياسية من ثقافة إلى أخرى؛ فثمة تباين واضح في التاريخ الثقافي بين الحضارات الغربية والشرقية وهو ليس بعيدًا عنّا، فمنجزات الاستبداد الصيني ملأت الآفاق.

 لكن حتى هذه الفوارق لم يحصد العرب، والعراق على وجه الخصوص، منها شيئًا، بل اقتطعوا اسوأ ما في الحضارتين؛ اقتطعوا الرأسمالية من الحضارة الغربية فتحولت إلى رأسمالية النخبة الحاكمة وبطانتهم من النفعيين والانتهازيين، واقتطعوا الاستبداد من الحضارة الشرقية فتحول إلى مدرسة كبيرة لتخريج القَتَلَة.

وبعيدًا عن صدام حسين وحماقاته، هل ثمّة شيء ما يلوّح في الأفق يبيح لنا أن تلمٍّس بوادر للتغيير في "النظام السياسي" العراقي الجديد بحيث يحق لنا أن نقارنه مع هذه النماذج الحضارية؟ إنه أمر معيب تمامًا أن نجري مقارنة من هذا النوع! ذلك أن ما يجري في العراق لا يسعفنا بتعريفه أي معجم سياسي على وجه الأرض؛ فنظامنا الجديد لا هو ديمقراطي على وجه ولا هو استبدادي على وجه, وظيفته الوحيدة هي إطالة أمد المأساة والإجهاز على آخر لحظة فرح يمكن أن يتمتع فيها العراقيون. 

فإذا كانت النماذج الحضارية المذكورة تتمتع بميّزات يمكن من خلالها فهم هويتها السياسية، فأنت في العراق لا يتوفر لديك سوى نموذج واحد، منذ ثلاثة عقود على الأقل، وهو نموذج الصراع على السلطة بلا غرض تترب عليه فائدة ما. الفائدة الوحيدة هي جريان الدم والدموع وقوافل جديدة من المغيبين في قعر العدم.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الواقع العراقي وشروطه المُعَقّدَة

تضامنات سياسية مٌزَيّفَة