03-سبتمبر-2020

كانت طقوس عاشوراء هذا العام أشبه بالاحتجاج على السلطة (Getty)

مثلت عاشوراء هذا العام انعطافة مهمة في سياقها الثوري الذي يحفز الجماعة لتبني مفهومها في نمطها المتعارف عليه، والمنحصر بين ثنائية الظالم والمظلوم. وفي العادة تأخذ هذه المناسبة منحى الحزن على الحسين ومصيبته في إطار سردي ينتج حالة بكائية تخفف من عمق الجرح لدى الفرد الشيعي (العراقي) لطبيعة البيئة المعقدة سياسيًا، والتي تفرز مشاكل جمة على مستوى اجتماعي صارت مرتبطة بهذه المناسبة، لتكون كرنفالًا لتفريغ حمولة الحزن وكمية الدموع المنحبسة، وكان يُراد لعاشوراء الحسين أن تكون قالبًا مصممًا بشكل لا يوحي بالنشاز على الشيعي العراقي، لينسجم مع رؤية صانع القالب، كانت الفكرة أن لا يخرج الحسين بعيدًا عن الموكب والحسينية، وأن لا يغدو أكثر تأثيرًا من مائدة طعام ممدودة بين منطقة وأخرى للتباهي بطولها، ومسيرة راجلة تُجيد خمش الوجوه ووضع الطين على الوجه والرأس، ويُختزل بمجموعة قصائد موسيقية، كان مقررًا له أن يظل دواءً يفرز الدمع مهيجًا لجنون التطبير والزحف على الأرض، هذه الأنساق المتطرفة والمغالية تدفعها خطابات المنابر لبعض المرجعيات التي ترى التطرف جائزًا لديمومة المناسبة وحفظها من الاندثار، وهي تلاقي رفضًا حتى من ذات أهل الطائفة، لكنه رفض خجول متخوف من الوقوع في محظور المقدس. 

وظفت السلطة الطائفية في العراق طقوس عاشوراء ومحرم لصالحها وتوسيع نفوذها في السلطة، لكنها انقلبت عليها بسبب انتفاضة تشرين

في منطقتنا العربية يتخذ المقدس بعدًا سياسيًا مؤثرًا في حسم المواقف النهائية في الجانب السياسي، وهو ما تعتمد عليه سلطة ما بعد الغزو في العراق، إذ توظف المناسبات الدينية بما يمكنها من طرحه كمنجز حزبي للطائفة، لا بد من الحفاظ عليه من الخصم السياسي الآخر الذي لو تمكن من الوصول للرئاسة سيمنع هذه المناسبة ويقيم محرقة بمن يقيمها، هكذا يجري تدشين الجمهور العقائدي ليكون قطعة صلبة بالغة التأثير، هنا يأخذ الحماس المغلف بالجهل بالتمظهر ليصل إلى درجة التفاعل والانفعال، والتكيف مع الشعار الحزبي من حيث لا يشعر حتى يتحول أداة حزبية ضاربة في عمق العملية السياسية كرقم طائفي سياسي مؤثر في صناعة القرار ومعادلة التحاصص. 

اقرأ/ي أيضًا: من التنويم للتثوير: الطائفية تفقد عقاقير الشعائر

تأخذ الغيبيات المغيبة للعقل وبعدها الروحي حيزًا كبيرًا في عمق الإنسان، ذلك لأنه يمثل محطة عبور مهمة لناحية المجهول الموحش، وليس هناك ما هو أشد تأثيرًا منها في الصراعات السياسية، ولا تجد الأحزاب توظيفها في تحقيق الغلبة حرجًا طلبًا للسلطة، بالتالي هو انعكاس لتفاعل الفرد في صناعتها بصرف النظر عن طبيعة شكلها في الحكم والسيطرة. 

عاشوراء في هذا العام جاء مختلفًا لأنه دخل في مضمار التنافس على المناسبة بين جبهة تشرين، وما جرى عليها من أهوال وبين الأحزاب التي تملك السلطة باسم الحسين وأوقعت بالمتظاهرين أفظع الجرائم تحت يافطة حماية النظام المنتمي للحسين، المتظاهر يسقط مهشم الرأس هاتفًا لبيك يا حسين على يد نظام يشرعن بقاءه ويرسخ من صلابته تحت قداسة الاسم ذاته، ووصل هذا التنافس ذروته متداخلًا في سياق السيطرة والبرهان لكسب الجمهور المتفرج والذي لم يحسم موقفه الضبابي بعد، كانت النتائج تدحظ التزييف وتفضح قصص الإعلام الحكومي الملفق. أراد المتظاهر أن يقول نحن نقمع ونموت ونقطع أوصالًا كما حدث في كربلاء. ما يسعى إليه هو عملية استدعاء للتاريخ ومن ثم تطويعه بما ينسجم مع قضيته، بات الأمر يشكل ألمًا مستنسخًا من خلال مسيرات جسدت شباب القاسم العريس المذبوح وتصويرها كحالة مماثلة لا تختلف عن أصل الحادثة، فالشباب هو شباب، والحلم هو واحد، وقد غدا مضرجًا بالدم، بالسيف، أو القنابل المسيلة للدموع أو رصاصة القناص، وفي الطرف الآخر حيث تقوم الأحزاب بتجيش مشاعر محبي الحسين وتعبئة الناس لزجهم في أتون الكراهية والاستفزاز الطائفي والديني، واستشراء الفساد في مؤسسات الدولة، وحرف نضال الجماهير المطلبية من أجل تحسين ظروف العيش، وفي الوقت الذي يكرسون فيه صناعة البطالة والكسل والفقر وانتشاره باعتباره القدر الإلهي الذي لا بد منه، ينغمسون من رأسهم حتى أخمص قدميهم في مباهج الحياة الدنيا، متناسين قول الحسين، إن "الكسل يضر بالدين والدنيا"، هم يستشعرون بالخطر وحساسية فقدان ورقة عاشوراء التي تضخ أكسير البقاء في الحكم واستحواذ السلطة، إنه صراع التراث وقيمه الروحية ومديات تأثيرها المخدر. 

لقد استطاعت السلطة الطائفية أن تعيد صياغة ذهن المواطن الشيعي من خلال قراءة وجدانية معكوسة لثورة الحسين ولأهدافها الإنسانية الكبرى، قائمة على الانفعالات السلبية المغلفة بمشاعر الإحساس بالدونية والمتلبسة بجريمة قتل الحسين، وكأنها تعمل على تأصيل عقدة مضخمة تتضح ملامحها في أبعاد نفسية مدمرة للذات، ومنها الشعور المستمر بالذنب وتكريس الحزن والمعاناة في الحياة وممارسة سلوكيات التكفير عبر التعزيز لطقوس مؤلمة وحزينة تجلد الذات جلدًا مبرحًا كتطبير الرأس والضرب بالزناجيل، وما يصاحبها من مشاعر المزيد من الإحساس بعقدة الذنب والاضطهاد والعدوانية الموجهة إلى الذات، وإلى الآخرين، إضافة إلى زرع الخوف من الآخر والتشكيك فيه، واعتباره قابلًا للغدر في أي لحظة ويترتب على ذلك الكثير من الدوافع في امتلاك السلاح وحيازته بالشكل المنفلت على نطاق واسع وبعشوائية استجابة لمشاعر الإحساس بالظلم والاضطهاد والعزلة لحماية الذات من العدو بعيدًا عن دور الدولة، وهو ما عزز من غيابها تمامًا لتحل محلها السلطة لدى من يملك القرار بالمال والسلاح. 

اليوم وبعد تجربة أكثر من عقد ونصف من الزمن زج فيها الدين في السياسة بأكثر الأشكال تعسفًا وعرقلة للشأن العام نبقى بأمس الحاجة إلى إعادة قراءة الدمج أو قل خلط الديني بالسياسي ورسم خطوط عريضة أكثر وضوحًا وتوظيف العامل الروحي في خدمة الوطن وتعزيز مفهوم المواطنة وبناء النسيج المجتمعي المترفع فوق الانتماءات وفي مسارات تعزز من فكرة أن "الدين لله والوطن للجميع". 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قوى السلطة تخسر آخر أدواتها.. الاحتجاجات تمتزج بطقوس عاشوراء

رهانات السلطة الخاسرة