31-أغسطس-2020

تداخلت طقوس عاشوراء مع مبادئ انتفاضة تشرين (Getty)

ترتبط المناسبات والتذكارات الدينية والطائفية عادةً بهوية الجماعة التي تصطبغ اجتماعيًا بصبغة ما تتصوره من معتقدات وما تمارسه من عادات وتقاليد؛ إلا أن بعض المناسبات والطقوس تفوق ما يُمكن اعتباره تقليدًا اجتماعيًا يتعلق بهوية هذه الجماعة، و/أو تعبيرًا عن مخاوف وجودية، شعيرة متوارثة، أسطورة يتناقلها الإنسان جيلًا بعد جيل تارةً للهرب من وحشة الحياة واكتساب المعنى، وأخرى لشد عضد الجماعة لأسباب بيئية واجتماعية وأمنية وغيرها. تمتد بعض التذكارات إلى أبعد من كل ذلك لتصبح شعيرة سياسية بامتياز مضمونها دينيٌ تأريخي. وعلى رأس القائمة لهذا النوع  في منطقتنا تأتي ذكرى عاشوراء واستشهاد الإمام الحسين وعائلته وصحبه عام 61 للهجرة، تلك الشعيرة التي عبّرت عن نفسها سياسيًا بكل الطرق الممكنة، وتمثّلت عمليًا عبر التأريخ، كما كانت في إحدى تجسيداتها عاملَ قوة وصمود لجماعة مضطهدة أمام أنظمة استبدادية وقمعية وطنية وخارجية.

استثمرت الطبقة السياسية الشيعية عطش الناس لإثبات الذات المجروحة بسنوات القمع والإذلال انتخابيًا لتكرّس وجودها الاقتصادي والعسكري

ولأن هذه الشعيرة بالذات، أي إحياء ذكرى عاشوراء بمشاركة واهتمام كبيرين، مرتبطة بجماعة مذهبية عربية لم يكن تأريخُها هادئًا ـ أي الشيعة ـ واشتبكت دينيًا وسياسيًا مع طوائف وأنظمة في جغرافيتها المتركزة بمنطقة المشرق والهلال الخصيب، تمظهرت سياسيًا في أكثر من حالة وموقف، فضلًا عن مساهمتها الفاعلة بتماسك الجماعة المذهبية.

اقرأ/ي أيضًا: قوى السلطة تخسر آخر أدواتها.. الاحتجاجات تمتزج بطقوس عاشوراء

حصل ذلك قبل نشوء ما بات يُعرف لاحقًا بالإسلام السياسي، أي قبل أن يُنظّر لاقتحام الفكر الإسلامي أبواب الحزب والتنظيم ومجال السياسة ببوابته الدقيقة، بل قبل دعوات الإصلاح بالعودة إلى السلف، والصحوة، وبطبيعة الحال قبل تعديل المرشد الإيراني روح الله الخميني لفكرة اعتزال رجال الدين للسياسة حتى ظهور الإمام المُنتظر.

بعد الاحتلال وسقوط النظام السابق عام 2003، الذي كان يمنع الكثير من الطقوس والتقاليد الخاصة بالشيعة، مارس أبناء هذا المذهب شعائرهم بطريقة حماسية منقطعة النظير، واستغل السياسيون القادمون من بلاد المهجر، المنظَّمون مسبقًا، الحالة ناتجة من عقود الكبت والمضايقات الأمنية، لتأطيرها سياسيًا عبر التحشيد الطائفي ضد الآخر، مستندين على تقسيم الحاكم الأمريكي بول بريمر للمجتمع العراقي بحسب "المكونات" وتمثيلها بالنسب في نظام محاصصة طائفية.

استثمرت الطبقة السياسية الشيعية عطش الناس لإثبات الذات المجروحة بسنوات القمع والإذلال انتخابيًا لتكرّس وجودها الاقتصادي والعسكري وثبتت الدستور بتصويت شعبي كبير، كما ساهمت، من الجانب الآخر، الحركات الإرهابية التفكيرية والتفجيرات الدموية في المناطق الشيعية، والقتل على الهوية، في دفع الناس نحو مدّعي حماية الطائفة ليصعدوا إلى مرتبة "قادة الطائفة".

حالةُ النصر التي عاشها المواطنون الشيعة بعد سقوط نظام صدام حسين واجتمعت مع الاستهداف الممنهج لهم لتكون لاصقًا بين المجتمع والأحزاب، بدأت بالفتور شيئًا فشيئًا بفعل الفشل الذريع لأحزاب السلطة بإنتاج دولة قادرة على توفير حياة كريمة.

أدرك العديدُ من المواطنين أن التذّرع بالوضع الأمني لا يعذر الحكومات من أداء أبسط واجباتها اتجاه الشعب، بل أن الفساد الهائل الجلي وغياب استراتيجية الدولة بأبسط  صورها أدى إلى انهيار البنى التحتية وزيادة نسبة الفقر والبطالة وتفشي ظواهر التخلف والانحلال في المجتمع.

اعتقد بعضُ الناس أن ظاهرة ممارسة الشعائر ذاتها بهذا الإقبال ستنخفض تدريجيًا وربما تتلاشى؛ لكن ما حصل كان مغايرًا على نحو واسع: رفرفت رايات الأئمة إلى جانب علم العراق بأيدي المنتفضين في الأول من تشرين وهتفوا بشعارات تُذكّر بثورة الحسين رفقة شعاراتهم الوطنية في معركتهم ضد الفاسدين الذين لطالما تشدّقوا بشعارات معركة الطف وأججوا الفتن وزرعوا الأحقاد والتفرقة وأفسدوا وخرّبوا وقتلوا باسم الشعائر الدينية.

كانت أجواء مُحرم هذا العام مختلفة بشكل لا يقبل الشك، وتداخلت طقوس الزيارة الدينية مع مبادئ انتفاضة تشرين

رغم ما جرى، وقد وثّقت عدسات المتظاهرين والناشطين ووسائل الإعلام كل ما ذكرناه أعلاه وأكثر، إلا أن بعض القوى السياسية لم تُقصّر في إلصاق شتى التهم بالمحتجين، ولم تكتفِ باتهامات العمالة والتمويل الخارجي والتخريب كما جرت العادة في بلداننا العربية، بل شككت بإيمان الشباب الديني وحمّلتهم مسؤولية التآمر ليس على العراق فحسب بل على المذهب ذاته!

اقرأ/ي أيضًا: طقوس الشيعة.. "انتقام" الذات والتوظيف السياسي

انطلقت انتفاضة تشرين قبل الزيارة الأربعينية إلى مدينة كربلاء، وقُمعت بعنف مفرط استخدمت فيه العصابات المنفلتة الرسمية وغير الرسمية، الرصاص الحي وسلاح القنص وقنابل الغاز في قتل وتفريق المتظاهرين حتى فككت احتجاجاتهم بنحو أسبوع فقط.

ساد حديثٌ في مواقع التواصل الاجتماعي ومن خلال ما رُفع من شعارات أن الانتفاضة توقفت وستعود بقوة بعد أداء مراسم الزيارة سيرًا على الأقدام، ما أعطى انطباعًا للجميع (بينهم الخائفون بصدق من التظاهرات أو من يقف خلفها) بأن المحتجين هُم أبناء عائلات متدينة بدرجات مختلفة من داخل الجغرافية الشعبية التي تمثل القاعدة الاجتماعية للأحزاب السياسية.

ومرة أخرى، جاءت رياح تشرين بما لا تشتهي سفن الأحزاب التي تعتمد اعتمادًا شبه كُلي على الطائفية واستغلال مشاعر الناس وإيمانهم، واقتحم المحتجون بوصفهم محتجين طقوس وشعائر شهر محرم وذكرى عاشوراء، وارتفعت صور شهداء الانتفاضة في المراقد الدينية مع شعارات تُندد بحكم الفساد والطائفية والتبعية وتمجد ثورة الحسين وتؤكد انتسابها لنهجه.

كانت أجواء مُحرم هذا العام مختلفة بشكل لا يقبل الشك، وتداخلت طقوس الزيارة الدينية ـ والتي قُلنا سلفًا إنها لم تخلو من السياسة في التأريخ ـ مع مبادئ انتفاضة تشرين ومطالبها.

قد لا يرى بعض الناس أهمية ما فعلته فئة "المواطن/المحتج" في مناسبة دينية جاهدت الطبقة السياسية لتصوير نفسها حاميةً لها وممثلة لقيمها، بل أنها حاولت مرارًا إسقاط ما حدث قبل أكثر من 14 قرنًا على الواقع الآني، وألمحت أن أحزاب اليوم هي آل بيت النبي وخصومها في الداخل والخارج هُم قتلة الأئمة.

لم تعد شعائر هذه الطائفة التي تمثل الأكثرية المذهبية في العراق "طابو" باسم ممثليها السياسيين الذين جاءوا بعد الاحتلال. لقد فقدوا هذا الامتياز. هذه هي بداية خسارة الأحزاب لـ"مادة تنويمية" استخدمتها كعقاقير تخدير في مجتمعها للسيطرة عليه ومنعه من الاعتراض "الفعلي" على الفساد والقتل ورهن مقدرات البلاد للخارج، وانقلبت الذكرى والطقوس التي استثمرت في تغييب وعي الناس إلى شُعلةٍ نفسية تشحنهم ضد منظومة سياسية مهترئة.

انقلبت الذكرى والطقوس التي استثمرت في تغييب وعي الناس إلى شُعلةٍ نفسية تشحنهم ضد منظومة سياسية مهترئة

إن غياب أقطاب هذه المنظومة التدريجي عن مسرحيات توزيع الطعام للزائرين في الشوارع، وكنسها، خوفًا من ردة فعل الناس، قد يعقبه تضييق على المظاهر الاحتجاجية في شهر محرم، فما جرى، هو بحق، ضربة موجعة في جسد الطائفية السياسية، أي استغلال اعتقادات الناس لتقسيمهم وإخضاعهم بهدف السيطرة على الدولة وثرواتها.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

خيارٌ ثالث.. موقف المواطن/المحتج من حروب الوكالة

رمزية الصورة والتشابيه الحسينية: محاولة للتفكيك