24-سبتمبر-2019

للصورة إسهام أساسي في تشكيل الأدبيات الثقافية للجماعة وإرساء سرديتها (Getty)

كمحاولة للاقتراب من العقل الشيعي والسعي إلى تفكيكه، لا بد أن تشتبك مع اللاهوت الشيعي، المقولة - الممارسة. إذ أن اللاهوت الشيعي هو الجذر الأول للبنية السياسية والثقافية والاجتماعية. تشكلت الجماعة الشيعية الأولى: الكيسانية - الزيدية - الافطحية - الإسماعيلية.. بمقولات لاهوتية سياسية، المقولة اللاهوتية الشيعية هي الإطار الأوحد والجذر الأول الذي انشئ الاتجاهات السياسية والفاعليات الاجتماعية والثقافية.. إذن، اللاهوت الشيعي هو الصورة التي تحتاج إيضاح (السمة العامة للجماعات الشيعية هي: الغموض، الضبابية، التواري) فكرة التقية الشيعية كممارسة سياسية اجتماعية ثقافية، هي فكرة بجذر لاهوتي؛ وبكلمة؛ ما لم تفهم اللاهوت الشيعي، لن تفهم العقل الشيعي، ولا يمكن أن نعرف ما يجري على وجه من الدقة والتحديد في سلوك هذه الجماعة.

اللاهوت الشيعي.. رمزية الصورة 

في جميع الديانات الباطنية والحركات السرية والاتجاهات الغنوصية تحضر الصورة (فن الرسم - التصوير الفوتوغرافي) بقوة، وتأخذ لنفسها مكانًا أساسيًا في تأثيث الفضاء الذي يحتضن الممارسة الدينية، وتحمل إلى فضاءات أخرى /بيت المتدين مثلًا ـ أو تتحول إلى جزء لا يتجزأ من الفرد نفسه، عبر حفظها في قلادة يرتديها، أو دسها في "جزدان" (حقبة صغيرة) أو وشمها حتى على الجسم!

للصورة إسهام أساسي في تشكيل الأدبيات الثقافية للجماعة وإرساء سرديتها وتحتاجها الجماعة كهوية في المجال العام

ليس الآن، منذ القدم، وصورة الرمز،محور الجماعة وقطبها، تشكل علامة بارزة في الأدبيات الغنوصية والباطنية والسرية. والفارق الذي يستدعي الانتباه، بينما تكون الجماعة سرية وإخوانية باطنية لا شأن لها في الظهور والإعلان، تأخذ الصورة دور الإشهار والإظهار، بوصفها علامة تتحرك في الفضاء العام!

اقرأ/ي أيضًا: الطقوس الشيعية.. آليات الدفاع عن الهوية

الصورة إذن علامة دلالية، سردية تختزل المقولات وتترجمها إلى لقطة فنية أو فوتوغرافية، الرمز في الصورة (موضوع الصورة) تحتاج الجماعة بقاؤه في الفضاء المغلق، وتحتاجه كهوية في الفضاءات المفتوحة. يذكر التاريخ أن أيام المأمون وما رافقتها من حملات لتطهير العراق وإيران من أتباع المانوية، كانوا يأتون بصورة ماني ويطلبون من المتهم بالمانوية أن يبصق على الصورة ليثبت براءته، ومن يتخلف يساق إلى المقصلة!. إذن، للصورة إسهام أساسي في تشكيل الأدبيات للجماعة وإرساء سرديتها (في الفقه الشيعي فتوى عند أغلب المجتهدين تحرم رسم ذوات الأرواح) وتثبيت الرمز/الحادثة، في الوجدان واللاوعي الجمعي.

في قصتين مختلفتين عن رمزين شيعيين، الأول الإمام علي بن أبي طالب، القطب الأول في المذهب، والسيد محمد الصدر (تعتقد الجماعة السلوكية التي ظهرت إبان مرجعية الصدر أن روح علي بن أبي طالب حلت بجسد الصدر)، كل قصة تحدد انفعال الصورة في المجال العام وتحويل دلالاتها واشتغالاتها.

القصة الأولى؛ ترويها جدتي، عن صورة الإمام علي، إذ أن جدي (رحمه الله) كان ثبت صورة الإمام علي في زاوية من زوايا صالة الضيوف، وثبت في الزاوية الأخرى صورة عبد الكريم قاسم.

وعشية إجهاض "انتفاضة" عام 1991 وعودة حزب البعث، وإخماد ثورة الجنوب والسيطرة عليها، شكلت السلطة لجان تفتيش، تدور في البيوت بحثًا عن أي شيء يمت بصلة للثوار، ويفضح سرهم، كان قاموس الثورة الذي وضعته السلطة يحتوي على أشياء تتوفر في كل بيت شيعي تقريبًا (علگ اخضر، صور الأئمة، كتب دينية، شريط تسجيل حسيني)، أما صورة الإمام علي، فهي كانت العلامة الأقوى كونها كانت بيد الثوار يطوفون بها في الأزقة والطرقات، وأي حائط يحمل صورة لعلي بن أبي طالب، هو متواطئ مع الثورة إن لم يكن حائطها!

تروي جدتي عندما علم الحي الذي نسكنه: لجان التفتيش اقتربت، طلبت من جدي أن ينزل الصورتين، علي بن أبي طالب وعبد الكريم قاسم، وقام جدي وأنزل صورة عبد الكريم وخبأها، ورفض رفضًا قاطعًا إنزال صورة علي بن أبي طالب!

تقول إنه قال لها: "مستعد أن أعدم على أن لا أنزل صورة الإمام".

في التاريخ الشيعي يحضر رُشيد الهُجري كبطل يقدم نفسه وأبناءه على أن لا يسب علي بن أبي طالب، ربما تمثل جدي دور رُشيد وأدخل العائلة برعب ما بعده رعب، عندما دخلت لجان التفتيش وما زال علي بن أبي طالب شاخصًا في مكانه يحتفظ بكامل الوقار والهيبة والحضور.

تكمل جدتي: إن اللجنة جالت في كل البيت وبحثت ونقبت وقلبت، لكنها لم ترفع رأسها تجاه الصورة "الإمام علي عمه عيونهم".

بقى علي على الحائط بينما اختبئ عبد الكريم القاسم خلف خزانة الملابس، وهكذا نشأت بيننا وبين صورة الإمام علي علاقة غنوصية بامتياز، كانت لها حضور وهيبة، وكأنها الإمام علي ذاته!. أتذكر وأنا طفل كانت أمي قبل النوم تقبل صورة الإمام علي وتلقي عليه تحية النوم - تصبح على خير يا بو الحسن علي - ترددها ثلاث مرات مع ثلاث قبلات ثم تنصرف، عادة اتبعتها أنا وأقلعت عنها عندما أبدلت العرفان بالمنطق!

أما القصة الأخرى فقد رواها صديقي، قال: في أيام 1999 وعند اغتيال محمد الصدر من قبل السلطة؛ هرب أقارب جاره من محافظة الديوانية، وكان يحمل معه أكياس الرز، كانت الأكياس مغلفة بإحكام وكأنها خارجة من المعمل، وعندما وصل القريب إلى الحي لم يُنزل أكياسه في بيت قريبه، إنما أودعها في بيت جاره الذي هو بيت صديقي، وبعد مرور أيام فتح الوافد من الديوانية أكياس الرز، وأخرج صورة للصدر كانت مخبأة مع حبات الرز، وعندما سُئل عنها، ولِم لم يتخلص منها وهو في الديوانية، أجاب بحزم:

"شلون أذبها هاي صورة الصدر ، وين أحصل منها بعد"!

وهكذا، أخرجها من الكيس ولفها بأكياس بلاستيك، ودفنها في تراب الحديقة، وبعد سقوط النظام أخرجها وأعاد تعليقها على الحائط.

في القصتين تتحول الصورة من عمل فني إلى رمز دلالي، وتلتحم أدبيات العقيدة من سرد وفن بقوة غنوصية باطنية وتضحى بنية واحدة لا فكاك بينها.

العزاء الحسيني بوصفة ممارسة غنوصية: "حزمينة يا أم البنين"

تطورت صور العزاء الحسيني الشيعي العراقي في الفترة الأخيرة، لم يعد العزاء بصورته التي كان عليها قبل سقوط النظام على أقل تقدير. الآن تتولد قصص جديدة، مقولات وحكايات، شعر مختلف عن الشعر الحسيني العراقي، حضور المرأة والطفل والحلي والثياب بشكل أكبر (تأثير الشعر الإيراني الذي تناول الحسين بوصفه رجلًا حضاريًا مدنيًا، يعلي من شأن المرأة ويهتم بأقراط ابنته الصغيرة، وتناديه ابنته بابا، ويحرص على ثيابه وخيمته، علاقته بعائلته على طبيعة العلاقات المدنية لا البدوية الصحراوية) عبارات جديدة الآن: حزمينة يا أم البنين، دخيل الخيزران، يا عمة السادة... الخ.

في الممارسات الباطنية دائمًا تكون الفضاءات مغلقة، مؤثثة وفق تجاذبات الطقس، ومضاءة على أساسه. أماكن مغلقة تحتوي الطقس وتوصد الباب أمام الآخر المختلف

سر العقيدة الباطنية والغنوصية استيعابها وتمددها واحتوائها على أصناف الأضداد والاختلافات؛ التمثيل الطقوسي الباطني الذي تتمظهر به العقيدة أشبه بالثقب الأسود، غير واضح المعالم، يبتلع، ويتمدد، ويتمظهر، ولا يقف عند حد!

في كل مرة تتخلق موضوعات جديدة، تضفي حسًا روحيًا، وجدانيًا، على الممارسة الطقوسية، والغاية المنشودة دائمًا هو الوصول بالممارسة إلى حدها الأقصى، الغاية المنشودة: تحرير الذات وجعلها تتسامى في الفضاء المكاني الذي يحتوي الطقس ويؤثث له.

اقرأ/ي أيضًا: طقوس الشيعة.. "انتقام" الذات والتوظيف السياسي

في الممارسات الباطنية دائمًا تكون الفضاءات مغلقة، مؤثثة وفق تجاذبات الطقس، ومضاءة على أساسه. أماكن مغلقة تحتوي الطقس وتوصد الباب أمام الآخر المختلف، ما يدور في الفضاء المغلق لا يخرج إلى الخارج، الطقس الغنوصي الباطني مثل السمكة تموت متى خرجت من الماء! هو هذا السر إذن.

في فضاء مغلق (حسينية غريب طوس ) أحضر لمجلس العزاء، مجلس غنوصي بامتياز، شحنة روحية صاخبة، شباب تتعاطى مع الحسين تعاطٍ إيماني بحت، الحسين هنا غير الحسين في الأماكن المفتوحة أو حتى المغلقة الأخرى. في ذروة العزاء الذي يلهبه ندّاب جنوبي بصوته الساحر، وشاعر جنوبي عاشق (سر ندب الحسين العراقي: شاعر جنوبي عاشق ونداب جنوبي مرهف الإحساس) في الذروة، تتحرر الذات من الأجساد العارية والسابحة في طقسها، وعرقها تحت الأضواء الحمراء، تتحرر الذات وتلتحم بالحسين. الآن: الأجساد العارية تترنح، الصدور تُلطم، الوجوه تُخمش، والآهات تتصاعد، الدموع تختلط بالعرق، والعويل والصراخ يشتبك في فضاء الحسينية وينزل مطرًا أبيضًا لماعًا!

في منطقة حوض البحر المتوسط، المركز القديم المشع بالنشاط الديني والفلسفي، أجد أن فضاءات الشيعة الغنوصية المغلقة هي الوحيدة التي تحتفظ حتى الآن بصور الدين الأولى، الدين بتكوينه الأول: روحي، رمزي، وجداني، غير منطقي، ذاتي، طقوسي. هذه الصور الأولى، والتي غادرتها الأديان وخربتها الاستعمالات الأيديولوجية والاستثمارات السياسية والاقتصادية، تجدها الآن زاهية، وصاخبة، وحاضرة بقوة في عزاءات الشيعة، العزاءات الغنوصية الباطنية، ولذا: الطقوسيون غير معنيين بالفقه ولا الدين السياسي، ولا أي استثمار للروحانيات، هنا النشاط روحي بحت، مغلق، ويحرم اقتراب الأيديولوجيا، والتجاذب السياسي والاقتصادي.

التشابيه : استعادة الحسين مسرحيًا "صرخة الحسين والحلم الشيعي"

والآن، لنتخيل حدود ساحة العرض، هي حدود الزمن، ذلك السياج غير المرئي، هو الحد الفاصل بين اللحظتين الماضية والراهنة؛ ستمثل صرخة استغاثة الحسين "الوجداني"، صرخة  ممتدة في الزمن، عابرة حدود الإمكان. إن أسيجة التاريخ لم تتمكن يومًا من حجر تلك الصرخة في حدود زمانية أو مكانية، كونها تخترق مثل الشظية جسد التاريخ وتنفد حتى الأعماق، بجريان متواصل لا هوادة فيه.

وبالعودة إلى ملبي النداء، سنجد حلم الشيعي "الوجداني"، هو حضوره مع الحسين في واقعة كربلاء، ذلك الحلم الذي يقف أمام تحقيقه عائق الزمان، كُبت ذلك الحلم في اللاوعي الشيعي وعُبر عنه في الأشعار: (يا ليتنا كنا معكم ...) والقصص والمنامات.

يوفر الفن لحظة حاسمة يرتفع فيها قيد الزمان والمكان عبر تخليق روحي وإبداعي يستدعي اللحظة التاريخية ويحاكيها، في هذا العرض الشعبي الديني، أعطي الشيعي الحالم بنصرة الحسين في لحظته التاريخية؛ فرصة لتلبية النداء ورد الاستغاثة، وما بقي عليه سوى اختراق السياج التاريخي غير المرئي للالتحام بالحسين وعيش لحظته التاريخية.

اقرأ/ي أيضًا: "أداة للنضال" تلهم الملايين حول العالم.. كيف ينظر الغرب إلى عاشوراء؟

استغاثة الحسين وصرخته مستمرة في الوجدان الشيعي، وحلم الشيعي بنصرة الحسين في لحظته التاريخية يستمر أيضًا، ونقطة التقاطع بين هذين المستقيمين تمثل الطف الذاتي، أي إمكانية امتلاكك (كشيعي) طفًا ذاتيًا انُتج باشتباك الصرخة مع الحلم. تحويل الطف الذاتي من حالة فردية إلى فعل جماعي دفع بإنتاج مقولات أيديولوجية (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء) وصار حالة دينية سياسية في العراق المعاصر (الحشد الشعبي حشد الحسين)  كمحاولة لتحقيق هذا الحلم المكبوت باللاوعي الجمعي الشيعي.

يستثمر الشيعي الحالم أي فرصة سانحة للالتحاق باللحظة التاريخية للحسين عبر امتلاكه طفًا ذاتيًا (خذ باعتبار الحالات الهيستيرية عند وقوع الانفجارات في المحافل الحسينية، ستجد الشيعة يركضون باتجاه التفجير لا بالاتجاه المعاكس!) وهذا ما يبقي صرخة الحسين ساخنة في جسد التاريخ لأنها مذكية في الوجدان الشيعي، وتسكن في أعماقه مثل النار تحت الرماد ما أن تهيئ لها الظروف حتى استعرت وأشعلت الشيعي وأدخلته لحظة عابرة للزمن يلتحم بها مع الأسطورة والرمز والحلم!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

رايات العزاء في "معاقل التطرف".. كيف يتفاعل "السنة" مع الطقوس الحسينية؟!

"ما هي مطالبكم؟".. القوات الأمنية تُحاصر أول "مسيرة حسينية" في البصرة!