لم نسمع في التاريخ يومًا أن القمع حيلة ناجحة لإسكات الخصوم. بل سيسهم إسهامًا مضاعفًا في تشكيل ثقافة سياسية مغايرة. ومعلوم أن تشكيل الوعي السياسي يعتمد بالأساس على دافع عميق وهو إرادة التغيير. وقد لفتت نظري في الآونة الأخيرة ظهور بعض الأصوات من داخل المنبر الحسيني تندد بالفساد السياسي الذي ينخر الجسد العراقي. وبمرور الوقت تتسع رقعة المطالبة بحياة كريمة. ويظهر من كل دعاوى الشيطنة والاحتقار والتزييف التي مارستها السلطة ضد الحدث التشريني، إلّا أنه ظل حيويًا وصامدًا رغم التشويهات المتعمدة والمستمرة حتى الآن. والإشارة إلى هذا الحدث لا يعني عصمته من الأخطاء والمعرقلات، وقد كتبنا عن هذه التحديات كثيرًا. وما لم نكتب عنه إلّا القليل هو هذه الحقيقة التاريخية التي يصوغها السؤال التالي: ما هو عمر السلطة القمعية الافتراضي؟ حقيقة، أن نصف عمرها يتمدد من خلال الدعم السياسي المستمر سواء من مستفيدي الداخل أو من أنظمة الخارج، وهذا أحد الأسباب التي تطيل من عمر السلطة القمعية بنحو نسبي. ومن يتعقل أحداث التاريخ لا تستهويه هذه المغامرة، أعني الرهان على الدعم المشبوه. وإذا سلمنا أن هذا الدعم يشل ركيزة صلبة لإدامة زخم السلطة القمعية، لكنه يحيل الشعب إلى جيش من الاحتياط ضد هذه السلطة، بل يتحول إلى طابور خامس ضدها، وتنتهي تلك السلطة بعزلة قاتلة وتُجابَبه حقد أعمى يتربص بها ويتحين الفرص للانقضاض عليها.
ظل حدث انتفاضة تشرين حيويًا وصامدًا رغم التشويهات المتعمدة والمستمرة حتى الآن
ظل صدام حسين طوال فترة حكمه للعراق مسكونًا بنظرية المؤامرة. وترتب على هذا الهاجس خراب كبير أحرق معه الأخضر واليابس. لقد عايش صدام حسين فترة الانقلابات واتخذ منها مرجعية أحادية يفكر ويتصرف من خلالها. وبما أن تاريخ الرجل حافل بالمؤامرات، إذ استباح لنفسه كل الطرق الوحشية لتصفية خصومه. ومنذ ذلك الحين شكل هذا الهاجس وصاغ شخصيته بالشكل الذي عايشناه. وترتب على ذلك مأساة مروّعة كان ضحيتها مؤسسات الدولة وشعب مستباح لا يمكنه الائتمان على حياته. كل شخص ضد الحزب والثورة مالم يثبت العكس، وهذا الأخير يخضع لمزاجيات القائد الأوحد. المهم في الأمر كان الثمن غياب الدولة وحصر الصلاحيات التشريعية والتنفيذية بيد السيد الرئيس.
اقرأ/ي أيضًا: داعش الوظيفي!
ولا أظن أننا نأتي بشيء جديد حول ما سطرناه، فقد أشبعه قبلنا الباحثون والمؤرخون لهذه الحقبة السوداء. غير أن المسكوت عنه هو ما تفرضه علينا هذه الأحداث من عبرة مستفادة. حتى الحين لا توجد مساعٍ جدية للتعلم من هذه الأخطاء الجسيمة. مثلًا، لم نركز على هشاشة الدولة العراقية في ذلك الوقت، وحتى لو ركزنا على ذلك لا نسمح لأنفسنا المقارنة مع تاريخ صدام. وهو رأي صحيح بعمومه، لكنّه لا يجيب على هذا السؤال: ما هو مصير السلطة السياسية التي تحصر رهاناتها بقوة القمع فقط، و يا ترى ما نوع المصائر التي تنتظرها؟ ألا يبدو سؤالًا مشروعًا خصوصًا أنه يحفل بمصاديق كثيرة ومؤشرات جلية؟ بمعنى أخر، ماذا تنتظر هذه السلطة وهي تراهن على قوة البطش؟
المشكلة العويصة، والتي لا يمكن تجاهلها، أن نوعية الخطاب السائدة في المجتمع العراقي تصادق على قوة البطش، ولذلك تسعى لإيجاد الحيل والبدائل والآليات. وتبذل مختلف أشكال الاستعباد والقسر لباقي الخطابات العابرة لخطاب السلطة. وهي تفعل كل ذلك، لأن الحقائق الوليدة تتنافر مع حقيقتها. ولكي تثبت لنفسها أن خطابها يعد تمثيلًا نهائيًا للحقيقة، تتعامل بشراسة مع كل ما يهدد حقيقتها. وبالطبع ليس بالضرورة أن تكون ثقافة القوة هنا بمعناها الكلاسيكي، وإنما يكفي أن تعلن عن نفسها كمنتج وحيد للحقيقة، وتقرر السردية التي يجب أن تسود، كما يخبرنا ميشيل فوكو، وتفسر الواقع طبقًا لمشتهياتها، وتشكّل الذوات طبقًا لما ترغب. فلدينا قوة بمعناها الكلاسيكي، وقوة، وهي الأوسع والأكثر نجاحًا، تسعى لإنتاج الحقيقة.
وبالرغم من الظلال الذي تنتجه هذه القوة، والاحتكار القسري لإنتاج الحقيقة، غير أن السلطة المهيمنة في العراق لا زالت بعيدة كل البعد عن هذا النمط من الاحتكار. أنها وفية ومفتونة بالنمط الأول، ويبدو أنها لا تريد مغادرته؛ ذلك أن تغييب حياة شخص ما، وإنهاء حياته أسهل بكثير من إقناعه بحقيقة ما، ليتشكل من خلالها ويسهل الهيمنة عليه لاحقًا. وبالرغم من التحشيد الإعلامي الواسع لهذه السلطة، إلّا أنه خطاب بائس ولا يستحق قيمة الأموال المبذولة لأجله، ولا يساهم في صناعة حقيقة.
مرة أخرى نكرر، أن القوة بوصفها آلية إنتاج للحقيقة، استنادًا لفوكو، ليس معناه المصادقة عليها، بل يعني أنها مرحلة متقدمة جدًا لأساليب الهيمنة. ولكي تغدو مهيمنًا كليًا على مجمل الخطابات السائدة، عليك أن تفعّل آليات أعلى من قوة القمع، فهذه الأخيرة تنتج مكروهية واسعة النطاق، وتخلخل البناء الاجتماعي، ما يسهل لاحقًا الإطاحة به وتطيح معه كل هياكل السلطة. مثلًا، كان التعامل مع انتفاضة تشرين بطريقة بشعة ومروّعة عبر الاغتيالات المستمرة، ولا زالت حتى هذه اللحظة ماضية في هذا السلوك المرعب. أما أنتاج الحقيقة فقد تركوه لجيوش إلكترونية بائسة لا تفهم سوى لغة اللواط والزنى.
ثمة وعي يسير ببطء ويشكل ثقافة سياسية خارجة عن المألوف في العراق وهو محاولة تضخيم الدولة على حساب السلطة وليس العكس
يمكننا أن نقارن الآن بين تخلخل أركان "الدولة" العراقية وعلاقتها بقوة البطش التي كان يحتكرها صدام، وبين سلطة اليوم التي ظلت وفية، كما قلنا، لذات الأساليب. هل سننتظر نتيجة مغايرة للتجربتين؟ أشك في ذلك، لأنه، وكما يبدو من التجارب، أن القوم عازمون على إنتاج حقيقة واحدة لا غير: عقد قران مع السلطة وتطليق الدولة طلاقًا خلعيًا! ومن يتجاهل قوة المؤسسات ونفوذها وحراسها الأقوياء فلم يفهم اللعبة جيدًا ولا يعمر كثيرًا على كرسي الحكم، فرهانات البطش عمرها قصير للغاية. وعلى الرغم من قوة هذا البطش، فثمة خطاب يتنامى ببطء ويشكل وعيًا مغايرًا لما أدمنته ثقافتنا؛ إنه وعي يتخذ من مفهوم الوطن نقطة شروع لتفكيره، وقاعدة راسخة لسلوكه، ورغم قلة الإمكانيات غير أنه يسهم الآن، ولو بنحو بطيء، في تشكيل ثقافة سياسية خارجة عن المألوف! وما هو الخارج عن المألوف: أنه تضخيم الدولة على حساب السلطة، وليس العكس، وهذه الثقافة، على بطء حركتها، تغدو خارجة عن المألوف في العراق بكل المقاييس، إذ لم يعد يحتمل هذا الوطن كل هذه القسوة، وكل هذه الرهانات الخاسرة.
اقرأ/ي أيضًا: