لم يمارس المجتمع العراقي أنماطًا متطورة من السيادة، وأعني بها سيادة العقلانية، فهذه الأخيرة ترافقت مع "نزع السحر عن العالم". إذ لم يعد العالم محلًا للأساطير، ولم يعد المجتمع نتاجًا لعلاقات ما قبل الدولة، ولم تعد "حرب الكل ضد الكل" أمرًا واقع؛ إنها البيروقراطية، بالمعنى الفيبري، تغدو الدولة نتاجًا لجهاز إداري ضخم، وتؤسس قوانينها وتضبط إيقاع المجتمع عبر تشريع القوانين ضمن أفق العقلانية.
التنظيمات السياسية الحاكمة في العراق قبلت بالديمقراطية على مضض والمشكلة لا أحد من هؤلاء يؤمن بالديمقراطية
إنها الدولة والمجتمع اللذان يمارسان السيادة من خلال التنظيم، أي سيادة فئة قليلة على جمهور واسع بغية تحقيق الخير العام. بعبارة أخرى، لقد اختفت الجماعات التقليدية بوصفها حاكمة باسم الدين أو الطائفة عن مسرح المجتمعات الحديثة، وهي الآن لا تتمتع بهذه المكانة المرموقة التي كانت تحظى بها ما قبل تشكيل الدولة الحديثة. ما بقي منها هو رمزيتها الروحية، أما الشؤون الدنيوية فموكولة لجهاز إداري محترف يترجم فلسفة الدولة ومؤسساتها الحديثة.
اقرأ/ي أيضًا: حركة امتداد.. بشارة لم تكن بالحسبان
أما في منطقتنا العربية، ولا سيما في المجتمع العراقي، ظلّت الجماعات تحظى بمكانة عالية بلغت مرتبة القداسة، والراد عليها كالراد على الله، ذلك أن النقد العقلاني، الذي هو سمة المجتمعات الحديثة، منظورًا إليه بوصفه مشكلة اجتماعية، ويندرج في عداد المنافسين لسطوة المقدس، وهذا الأخير يمارس دوره الاجتماعي والسياسي بإمضاء واسع من قبل المجتمع. وجوهر هذا المجتمع وأصوله الذي يستمد منها طريق تفكيره وسلوكه هو عاداته المتأصلة. أي أن العادات والتقاليد تتقدم على كل فعل اجتماعي ينحرف عن جادة "الصواب" (التقاليد). ويمكن لهذا المجتمع التقليدي أن يتمتع بكل مباهج الحياة الحديثة ما عدا العقلانية فهي تصيبه بمقتل وتهدد كل هويته التي درجت عليها المواضعات الاجتماعية.
ولا نوحي هنا بضرورة التغيير من القاعدة الاجتماعية فهذا مطلب مثالي، بل يبدأ التنظيم من النخبة السياسية فسيكون على عاتقها تغيير البنى الاجتماعية بمرور الزمن. بيد أن الحاصل عندنا هو الضرب على الوتر الحساس عبر مجاملة المجتمع لكسب المزيد من السيادة عن طريق الانصياع لسلطة التقاليد والتي أعني بها بالضبط تلك التقاليد التي تدرج الفعل العقلاني في عداد المحرّم.
إن التنظيمات السياسية الحاكمة في العراق قبلت بالديمقراطية على مضض، والمشكلة لا أحد من هؤلاء يؤمن بالديمقراطية؛ الشيعة، والسنة، والكرد. إذ لا تعني لهم الديمقراطية شيئًا سوى أنها آلية لتوزيع المغانم. ولولا المهيمن الدولي واشتراطاته، التي لا يمكن لأحد التلاعب بها، لتقاتل القوم إلى أجل غير معلوم. فقرّروا أن يجاملوا أغلبيتهم الشيعية لضمان أكبر عدد ممكن من هذه الحاضنة الشعبية الواسعة لترسيخ وجودهم بدلًا من العمل على التغيير الحقيقي عبر بناء مؤسسات عصرية.
لذلك تعد التنظيمات الديمقراطية في العراق، وفي الوقت الحاضر تحديدًا، حجرة عثرة ومشكلة سياسية عويصة وورطة للقوى المهيمنة في العراق. وقد وصل الأمر بالجماهير أنها تنتخب على أساس الولاء وليس البرنامج، فالولاء مقدم على كل شيء. لكن، وللإنصاف، حتى هذه الولاءات بدأت تتآكل بالتدريج بعد أن أفلست من كل الوعود. وسينتظر المقاطعون لهذه العملية السياسية من يمثلهم في المستقبل في الحكومات الجديدة، مع الأخذ بنظر الاعتبار صعوبة الممارسة الديمقراطية تحت ضغوط العادات الاجتماعية المتأصلة التي تبارك لها التنظيمات السياسية الحاكمة.
إن القوى المهيمنة في العراق لا ترى الأشياء على طبيعتها وإنما تراها طبقًا لأيديولوجيتها، وهذه الأخيرة تعني بالتحديد العداء الصارخ للديمقراطية، وهي لا تقبل إلا أن تكون في مقدمة الركب السياسي، حتى لو لم تحصل على مقاعد كافية بالبرلمان، هذا ما شاهدناه هذه الأيام من الاعتراضات الهستيرية التي وصلت لمستوى التهديد المبطن فيما لو اتجهت بوصلة الانتخابات على عكس رغباتها. وطبيعة المشهد السياسي تؤشر لنا بوضوح أن شيعة السلطة لم يقبلوا بالديمقراطية إلا من حيث كونها تحقق السيادة الكاملة للتنظيمات الشيعية، وإن حصل العكس فستكون الديمقراطية رجس من عمل الشيطان. إنها تتعكز حتى هذه اللحظة، بفعل التواطؤ الاجتماعي والسياسي على آليات الديمقراطية المنسجمة مع رغباتهم، وهم يحاولون ضخ الوجود في هذه الديمقراطية العرجاء لكن يبدو أن هذا الشكل من الوجود صار ضعيفًا هذه الأيام.
السمة الغالبة للتنظيمات السياسية في مجتمع تقليدي؛ إنها تستثمر كل آليات الديمقراطية لصالحها لكنها تجري بالضد منها فيما لو تحول هذا الصالح لخصومها. مختصر القول: مجتمع تقليدي بآليات ديمقراطية تضمن له سيادة الجماعة وينبغي عليه أن يجرد الديمقراطية من كل مضامينها ليضمن السيادة الكاملة من جهة واستبعاد الخصوم من جهة أخرى. إنه استبداد بطريقة تعبيرية مختلفة توحي بالديمقراطية، وهي شبيهة بحالة الشخص القبلي حينما يُقبل منتشيًا على كل مباهج الحياة وحسنات الحداثة لكنّه يظهر ممانعة شديدة لو تعلق الأمر بتغيير عاداته.
كانت الناس ولا زالت تعاني من هذا التناقض الصارخ بين أقوالها وأفعالها، ويشتد هذا الحال في وضعنا السياسي الراهن؛ إذ يتراكض الناخبون لصناديق الاقتراع لا من أجل تحسين ظروف العيش وإنما لتجديد "البيعة" لرموزهم المذهبية، وتحشيد كل السبل المتاحة للفوز بالرضوان من قبل هذه الرموز المقدسة. وبالطبع ليس الأمر بسيطًا إلى هذا الحد فيما يتعلق بتغيير العادات، فالمعتاد، على أي حال، ليس شرًا أو ليس سيئًا بذاته وإنما يكمن الشر في إضفاء صفة الجوهرية عليه ويغدو مقدسًا بمرور الوقت، ويترتب على ذلك تحريم كل محاولة نقدية أو اختراقية لهذه العادات المتأصلة.
في المجتمعات الحديثة يفتح المفكر إمكانيات جديدة للتفكير والحياة، أما في المجتمعات التقليدية فتكون السيادة والكلمة الفصل للشعبوي، وهذا الأخير يفتح إمكانيات للأهواء النفسية العنيفة ويمنحها صفة الشرعية، ثم يتعزز دور الحمقى والأغبياء والانتهازيون وذوو الخطاب التسلطي، وستكون النتيجة كالتالي: إن البلدان التي تعاني من تراجع وانحطاط حضاري تتوالد فيها حاضنة اجتماعية واسعة لذوي الأهواء النفسية، وتتأصل هذياناتهم باعتبارها جزء أصيل من الثقافة، ويفرزون نخبًا اجتماعية وسياسية طبقًا لصورتهم. في حين يبقى أهل الفكر والعقلانية في زوايا النسيان.
يتراكض الناخبون لصناديق الاقتراع لا من أجل تحسين ظروف العيش وإنما لتجديد "البيعة" لرموزهم المذهبية
إن التنظيمات الطوعية القائمة على الفعل العقلاني قد يتم ابتلاعها من قبل القوى المهيمنة في المجتمع التقليدي. وليس هذا الابتلاع طوعيًا بالضرورة بل قد يجري بالإكراه بطرق تعبيرية مختلفة فيذوب في نهاية المطاف ويسقط في عتمة الاستلاب والقهر الاجتماعي والسياسي؛ إما أن يكون منبوذًا بواسطة العنف الرمزي أو تتم تصفيته جسديًا لو تجاوز الخطوط الحمراء. وبين هذا وذاك استبسلت بعض القوى السياسية الجديدة للدخول في الحكومة العراقية؛ إنها تنظيمات ديمقراطية حقيقية في ظل مجتمع تقليدي فهل تتصورون معي جسامة المهمة أن تكون مٌنظَمًَا بشكل عقلاني في ظل مجتمع تقليدي تكون فيه الشعبوية فرس الرهان للفوز بالسلطة السياسية والاجتماعية؟
اقرأ/ي أيضًا: