18-مايو-2021

لم نجرب في ممارساتنا للسياسية العمل من القاعدة لمواجهة النظام وشبكاته (فيسبوك)

في مقال سابق تحدثتا عن إمكانية التغيير الشامل الذي تنجزه الثورات الحديثة، وبيَّنا بأن ثورات عفوية تنطلق من الشوارع والساحات من دون محركات أيديولوجية صلبة وفقًا للشروط الموضوعية الحديثة لزمن انهارت فيه هذه الأيديولوجيات، لذا، ليس من الضروري أن تنجز تغييرًا راديكاليًا على شكل الأنظمة السياسية المتعارف عليها لأسباب تطرقنا لجزء منها في المقال السابق، هذه ثورات واحتجاجات، ربما تنجز أو تعبر عن قيم ثقافية وسياسية أكثر مما تنجز تعبيرًا ماديًا يستهدف شكل النظام، وهذه ربما ستكون فاتحةً تساعدنا على فهم العديد من الأسئلة تطرح الآن في عراق ما بعد ثورة تشرين، وكذلك، ما يتعلق بالأاسئلة حول الانتخابات وآلية اشتغالات التنظيمات السياسية التي ظهرت بعدها.

  من المقاطعة الانتخابية إلى قطيعة النظام

واجهت التنظيمات السياسية التي انبثقت ما بعد لحظة تشرين سؤالًا انتخابيًا يهتم بالقطيعة، فهي ترى أن الانتخابات في ظل ظروف هيمنة السلاح والمال المنفلتين التي لا يمكن في ظلها تحقيق التمثيل السياسي الملائم، وكذلك كانت هذه القوى  تنتظر إتمام الكشف عن قتلة المتظاهرين حتى يتم إسقاطهم داخل العملية السياسية قبل سقوطهم اجتماعيًا، على فرض أن السلاح المنفلت محمي من أطراف سياسية مهيمنة.

 لم تحقق الانتخابات أجوبة لشكل الهوية الوطنية، بل هي كانت عمليًا في صف تكريس الواقع المكوناتي التحاصصي

ما أعتقده أن الاستجابة التي قدمتها هذه الحراكات ضد الانتخابات تضمر شيئًا أبعد من إشكالية التمثيل المرغوب به، والذي يمنع من تحققه انفلات السلاح والمال، وعدم تحقق أي ملمح قانوني يضبط العملية الانتخابية، ما تضمره هذه الاستجابة شيءٌ أكبر من هذه المطالب، ما أراه هو شكل من أشكال القطيعة مع النظام السياسي القائم، هذا الهاجس كان مصدره لحظة تشرين التي عبرت بوضوح عن هذه القطيعة الواضحة، كذلك، فإن الانتخابات لم تحقق أجوبة لشكل الهوية الوطنية، بل هي كانت عمليًا في صف تكريس الواقع المكوناتي التحاصصي المدعوم زبائنيًا من شكل الاقتصاد الريعي للدولة.

اقرأ/ي أيضًا: احتجاجات تشرين.. من العفوية إلى القطيعة الإيجابية

من الأسئلة الأكثر الحاحًا، ومن الراهنية التي تواجَه بها القوى المقاطعة للعملية السياسية في العراق، هناك سؤالان يبدوان هما الحاكمان لعمل ومصير هذه التنظيمات لما بعد المقاطعة، وهما سؤال الاتحاد أو التحالف بين هذه القوى، وسؤال الآلية العملية لما بعد هذه المقاطعة، سأتناول في هذه الفقرة السؤال الأول وأؤجل النقاش عن السؤال الثاني إلى الفقرة التالية.

نحو ضبط تناسق حركي

في مقدمة هذا المقال وفي مقالات سابقة، تحدثنا عن إشكالية التنظيم في احتجاجات هذا العصر، وبينا كيف اختلفت أنماط الاحتجاج باختلاف الشرط الاجتماعي الموضوعي، وهو بطيعة الحال اختلاف عالمي يرتبط بتغير أنماط العمل في الغرب، بينما ارتبط عندنا باختفاء نشاط الأحزاب الأيديولوجية التي أنتجت ما بعد عصر الاستعمار، وكذلك تنوع أنماط العيش، وهو ليس حنينًا لهذه الأنماط، قدر ما هو وصف لطبيعة التغيّر الذي أصابنا، لذلك لا يكون تأثير هذه الثورات حاسمًا ومباشرًا إزاء الأنظمة السياسية، ولكنه بالضرورة سينتج تغييرات قيمية عامة، وسيكون للثقافة السياسية حصة الأسد في هذا التغيّر، لذا فالثورات الحديثة هي ثورات ثقافية بالدرجة الأساس حسب قول المفكر عزمي بشارة، ولكن في ظل هذا الواقع؛ هل يبدو سؤال التنظيم عدميًا وخاليًا من المعنى؟ أعتقد أن التنظيم فكرة أساسية ومهمة في أي عصر، وتحت أي نمط من العلاقات الاجتماعية، لذلك، فهي مخيفة لأي نمط سلطوي كان، فالسلطات الرأسمالية مثلًا تخشى مقولة "نحن" المنظمة التي تمتلك فضاءً حرًا للنقاش والاحتجاج، وكذلك حال الديكتاتوريات التي تخشى أي تنظيمات عفوية تطالب الحرية والعدالة والديمقراطية، وينسحب هذا على السلطات الطائفية الهرمية التحاصصية التي تخشى أي تنظيمات أفقية تعاكسها بالخطاب والفعل السياسي.. والخ.. لذلك، فإن فكرة التنظيم تبقى فضيلة أي حراك حر ورهانه الأبدي، لكن آليات التنظيم تصطدم دائمًا بالشروط الموضوعية القاعدية، وهذا ما يجعلنا نتسائل على أي شيء نعتمد في تنظيمنا على مستوى الخطاب ومستوى القاعدة الاجتماعية؟ ما أعتقده في شرط تشرين أنه يهيأ سؤال القيم السياسية الجديدة الذي يُعد علامة بارزة، التي تتأمل بعمق  كبير بمسار الدولة والهوية الوطنية والمجتمع المدني ونبذ العنف والطائفية.

إن هذه قيمٌ تحتاج لفعل سياسي غير تقليدي، تنظيمات ليس همها العمل السياسي التقليدي المباشر قدر تحويل هذه القيم إلى برامج فعل سياسي، هذه القيم هي الوحيدة القادرة على صناعة شيء مهم لهذه التنظيمات التي انبثقت ما بعد تشرين، فلا نقول اتحاد تام بين هذه القوى، لأن هذا غير ممكن الآن من الناحية الموضوعية والعملية، ولكن نقول بشيء من ضبط التناسق الحركي بينها، يدفعها إليه هذه القيم الضاغطة للتغيير، فينتج كتلة اجتماعية واضحة تعمل على تحويل هذه القيم إلى رأسمال رمزي مسيس بآليات غير تقليدية.

نحو فعلٍ جديد للعمل السياسي

إن بروز تنظيمات سياسية في عراق ما بعد 2003 تقاطع نظامًا سياسيًا توافقيًا بشكل كامل ولو بشكل مؤقت، يعد  رهانًا مهمًا وجديدًا وثوريًا أمام هذا النمط من الأنظمة السياسية، فالأنظمة التوافقية بشكل عام وعلى المستويين النظري والعملي تتيح  الفرصة السهلة للدخول بالعمل السياسي المباشر ومشاركة الأحزاب بالغنيمة، مقابل تخادم هذه التنظيمات مع العملية السياسية، وهذه طبيعة الأنظمة التوافقية من الناحية العملية، أنها تتيح العمل داخل النظام بسهولة كبيرة لكن ضمن بنية النظام وآلياته، لذلك اعتبر المقاطعة الانتخابية والقطيعة مع النظام عملًا ثوريًا إذا ما فهمنا طبيعة عمل هذا النمط من الأنظمة، وحتى لا تتحول هذه اللحظة إلى طٌهرانية ثورية ربما تؤدي إلى عدمية تجاه العمل السياسي. اعتقد أن على هذه التنظيمات أن تختبر نمطًا جديدًا من العمل السياسي غير التقليدي.

 لم نجرب في ممارساتنا للسياسية العمل من القاعدة لمواجهة النظام وشبكاته

ارتبطت فكرة الممارسة السياسية عندنا بالعمل السياسي السلطوي المباشر داخل هياكل السلطة، وهذه فكرة ترسخت عمليًا لعدة أسباب، منها ضعف النشاط النقابي عندنا، والذي أفرغ الساحة بشكل تام للأحزاب وجعلها الممثل الوحيد للمارسة السياسية، ولأن هذه الأحزاب لا تنشغل إلا بالسلطة، بل وحتى صراعاتها كانت وما زالت من أجل السلطة، لكن حتى إذا افترضنا بأن هذا التفكير هو في صلب طبيعتها، إلا أنها  ستكون صناعة مزاج سياسي للعمل الذي يعتبر فتحًا جديدًا للممارسة السياسية. نحن لم نجرب في ممارساتنا للسياسية العمل من القاعدة لمواجهة النظام وشبكاته، أو صناعة علاقات تضامنية مع القاعدة الاجتماعية من خلال نظام عملي جديد يواجه النظام ثقافيًا وحقوقيًا بممارسة جادة تتساوق مع اللحظات الثورية التي مرت بنا، وهي تشكل بالذات حرب شبكات ثقافية وحقوقية واقتصادية تتمثل بنخب الخبراء والناشطين لمواجهة هذا النظام أمام المجتمع الدولي، تديره شبكة مهتمة بهذا الجانب، وكذلك مواجهة النظام من خلال محاكم الدولة الدستورية والعادية تديره شبكة حقوقية مختصة، إضافة إلى مواجهة النظام ثقافيًا من خلال صراع القيم الجديدة بتهديم البنى التقليدية التي تدعم إنتاج هكذا أنماط من الحكم والعمل على ترسيخ بنى قيمية حديثة، هذه جزء من ممارسات عملية تتيح لأي تنظيم جديد بناء علاقات قاعدية مهمة ومؤثرة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حول الاحتجاجات ومقاطعة الانتخابات.. الآن

العلاقة بين المجتمع والنخبة: محاولة للفهم