يصعب الحديث في ظل أجواء كالتي نعيشها عن القضايا النظرية المهمة في أصلها ولكنها قد تبدو متعاليةً على ما يشغل ذهن الناس وهو الأهم: أمنهم وحياتهم. يُفترض أن نصوغ المقدمات ونقتبس من التجارب التاريخية وآراء كبار المفكرين حول الإصلاح والتغيير والثورة والمسارات المحددة، وعلاقة كل منها بالانتخابات والخيارات المتاحة أمامه، إلا أن الأجواء الحالية كما أسلفت تدعو لتأجيل ذلك بعض الوقت لتناول ما هو راهن: إعلان قوى احتجاجية أو موالية للاحتجاجات مقاطعتها للانتخابات. الموقف وتداعياته السياسية هنا والآن.
تحتاج الفئات المجتمعية المساندة أو المتضامنة مع المتظاهرين والمؤيدة لطريقهم أن ترى بوضوح التحام هؤلاء الشباب والتفافهم حول موقف واضح وموحّد
يبدو لي أن الطريق إلى هذا الخيار عمره قارب العام. منذ أول عملية اغتيال هزّت الأوساط الشعبية والسياسية كافة. أعني اغتيال الباحث الأمني هشام الهاشمي. استمرت الاغتيالات حتى وصلت إلى إيهاب الوزني في كربلاء. ومن هنا، لا أتفق مع القائلين بأن إعلان المقاطعة عاطفي ومتسرّع بدعوى أنه جاء بعد اغتيال. إلا أن التسرّع والخيار العاطفي كان واضحًا في إصدار البيانات والمواقف فرادى، وهو ما يقلل من شأن الخيار الذي اتخذته تلك القوى، ويخلق حلقةً للانقسامات الجديدة بين المتنظمين فيما بينهم، وفجوةً مستقبلية مع الشباب المتطلعين لهؤلاء.
اقرأ/ي أيضًا: اغتيال "إيهاب الوزني".. رصاص الميليشيات يستبيح أيقونة الاحتجاج السلميّ
الآن، على الصعيد العملي، فأن للموقف المقاطع للانتخابات من قبل قوى احتجاجية رسائل ينبغي لها أن تصل، في الداخل، وإلى الخارج. نستطيع القول إن الرسائل ستستهدف – دون ضرورة قصدية – ثلاثة أطراف: هي المجتمع، الحكومة والقوى السياسية، إضافةً إلى المجتمع الدولي.
تحتاج الفئات المجتمعية المساندة أو المتضامنة مع المتظاهرين والمؤيدة لطريقهم أن ترى بوضوح التحام هؤلاء الشباب والتفافهم حول موقف واضح وموحّد يستند إلى قدسية الدماء ويتعالى على الطمع بالمكاسب. قوة الرسالة الواصلة إلى المجتمع هي قوتها اللاحقة لبقية الأطراف. إن الانقسام بمثل هذه الحالات مؤذٍ لناحية المصداقية، والحال لا يتحمل المزيد من الاقسامات إلى "جماعات" تنشغل بصراعات جديدة.
يؤكد رئيس الحكومة أن حكومته جاءت لإجراء انتخابات طالب بها المتظاهرون. انشغل بأدوار أرادها الخارج منه بدلًا من إيجاد حلول للواقع المتأزم الذي أدى إلى إسقاط حكومة سلفه والإتيان به. الحلُ كما يبدو من خطابات الكاظمي لكل مشكلات الداخل هي الانتخابات، لذا فأن الموقف الموحّد سيخلع منه دوره الذي رسمته له القوى السياسية ويحثه عليه المجتمع الدولي. لا بدّ أن يكون الكاظمي أمام خيارين، إما أن ينتفض خلال الأشهر المتبقية ويُعيد ثقة الشارع بالعملية السياسية ويحمي الناشطين والمرشحين والمتظاهرين عمومًا، أو أن يستمر بممارسة الوعظ وينضم رسميًا لقائمة القوى المعادية للتغيير. سيكون مكشوفًا للجميع في الحالة الثانية، ومضطرًا للمجازفة بحياته في الحالة الأولى، لكن الحالتين تشترطا الموقف الموحّد.
المجتمع الدولي ومن خلال المؤسسة الأبرز في هذا الشأن، أي الأمم المتحدة، لم يكن له الدور الحاسم أثناء عمليات القتل المتواصلة للمتظاهرين، فكيف الآن؟.. تثابر ممثلة الأمين العام في العراق على متابعة مسألة الانتخابات من خلال لقاءاتها المتكررة مع المسؤولين، ولن يصل صوت المواطن/المحتج إلى الممثلة ورئيسها وكل الدول الكبرى والمؤثرة دون مواقف موحّدة مرة أخرى.
قلنا إن الحديث عن فوائد ومضار المقاطعة والمشاركة يحتاج وقتًا آخر، وجزء كبير منه مكرر من انتخابات 2018 والنقاشات التي دارت في ذلك الوقت، والمهم هو الخروج بموقف يجمع أكبر قدر من الفاعلين في انتفاضة تشرين وما قبلها، وبرؤية واضحة. ورب سائل يسأل عن أهمية تلك القوى المؤيدة أو المنبثقة من الاحتجاجات ووزنها لتكون مواقفها مهمة إلى الحد الذي نناقشه في مقالة؟.. نقول: لقد خرج مطلب الانتخابات المبكرة من الحراك الاحتجاجي، وصارت الانتخابات ومطلبها - وهي الطريقة المعقلِنة للاحتجاج العفوي - الجامع الذي يجمع بين الفئات الشعبية والأحزاب السياسية والحكومة والأطراف الدولية. بالتالي، فأن المسألة لا تقف عند أرقام وأوزان القوى الاحتجاجية التي تسمي نفسها "تشرينية"، بل بتهديد المقاطعة الشعبية الاحتجاجية لأركان هذا الجامع.
يحتاج الشباب المنظّم حديثًا إلى الاتفاق على إعلان شامل له بنوده وسقوفه الزمنية، كما أن الفائدة المرجوة عمليًا على المدى البعيد، من المقاطعة أو المشاركة، لن تجنى دون الالتحام
إذن، لناحية الرسائل التي يُراد إيصالها، يحتاج الشباب المنظّم حديثًا إلى الاتفاق على إعلان شامل له بنوده وسقوفه الزمنية، كما أن الفائدة المرجوة عمليًا على المدى البعيد، من المقاطعة أو المشاركة، لن تجنى دون الالتحام.
اقرأ/ي أيضًا:
"مقاطعون".. اغتيال إيهاب الوزني يلهب مطالب "إسقاط النظام" في العراق
اغتيال إيهاب الوزني.. قوى وأحزاب وشخصيات تُقاطع النظام السياسي