09-أبريل-2019

عدد القتلى العسكريين الأمريكيين حتي 2010 بلغ 5798 قتيلًا (موقع الجيش)

في لحظة فارقة بتاريخ العراق الحديث، حين احتلته القوات الأميركية في التاسع من نيسان/أبريل 2003، إذ أتى إسقاط نظام استبدادي جثم على صدور العراقيين بعد أكثر من ثلاثة عقود مع حصار أمريكي خانق، ما أدى إلى خلاف جذري حول ماهية الغزو، هل هو احتلال أو تحرير مثلما زعم الأمريكيون، ورسمت هذه التبويبات ملامح علاقة القوى المعارضة لنظام صدام حسين بالقوات الأمريكية، حيث تركت القوى الشيعية المعارضة لنظام 2003 سلاحها وأعلنت انخراطها في العملية السياسية مع الولايات المتحدة وبدأت تروج لفكرة "التحرير" وتقف ضد كل من يدعو إلى المقاومة.

الأمريكيون وعند احتلالهم العراق تركوا المؤسسات أمام الناس وفتحوا المصارف وقاموا بحل الجيش والمؤسسات الأمنية مما ساعد على انتشار السلاح والقتل النهب

عمد الأمريكيون إلى صناعة فوضى عند دخولهم، تركوا المؤسسات أمام الناس، وفتحوا المصارف وقاموا بحل الجيش والمؤسسات الأمنية، مما ساعد على انتشار السلاح والقتل والنهب، فيما حاول معارضو نظام صدام حسين أن يضمنوا تمثيلهم في حكومة الاحتلال ونيل رضا الحاكم العسكري للعراق بول بريمر، ولم تكن في حسابات القوى السياسية  مقاومة الاحتلال أو تشكيل جدار صد ضد السياسة التي اتبعتها تلك القوات في عمليات دهم وقتل للمواطنين في الشارع عند الاشتباه أو في حالة عدم الالتزام بتعليمات سير المركبات، فضلًا عن تغييب المئات في السجون، فيما مثلت فضيحة سجن أبو غريب دليلًا دامغًا على ما أسماه الكثير من المواطنين العراقيين بأنه مرحلة "إجرام أمريكي" ضد الشعب العراقي.

من فضيحة سجن أبو غريب (فيسبوك)

بداية المقاومة

للحديث عن المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي، من الضروري تمييزها مناطقيًا وطائفيًا بسبب الظروف التي رافقت انطلاقها، فالسنة والشيعة قاوموا الأمريكان ولكل منهما خصائصه ودوافعه في المقاومة، لكن مرحلة من القتال توحد السنة والشيعة في القتال ضد الأمريكان، الأمر الذي أدى إلى أن عملت أمريكا والنظام السياسي على تفريقها وتحويلها إلى حرب بين طائفتين.

من النجف العاصمة الدينية للشيعة تشكلت نواة المقاومة الشيعية، حيث دعا رجل الدين الشيعي، مقتدى الصدر أتباع والده المرجع الديني الذي أعدمه صدام حسين، محمد محمد صادق الصدر إلى تشكيل "جيش المهدي" وهدفه مقاومة الاحتلال الأمريكي وتحرير العراق بحسب الصدر، وكان معظم أتباع الصدر من الطبقة الفقيرة في المجتمع العراقي يسكنون جنوب العراق وأطراف العاصمة بغداد، وفي أواخر عام  2003 تشكل جيش المهدي في بغداد والمحافظات الجنوبية.

فيما قاوم سنة العراق الاحتلال الأمريكي وكانت مدينة الفلوجة "60 كم شمال غرب بغداد"، الرديف المقاوم للنجف، وأربكوا القوات الأمريكية في غرب العراق، بينما دعم السنة والشيعة بعضهما من حيث العدة والعدد في تلك المعارك.

القتال في خندق واحد

سياسة نظام ما قبل 2003 الاستبدادية كانت كفيلة بإذابة الهوية الوطنية نظرًا لتفت المجتمع المدني وتكتل الجماعات وبناء حدود ثقافية منفصلة لها، حيث أن الكثير من العراقيين فرحوا بزوال صدام حسين دون التفكير بتبعات الاحتلال، ومنهم من وقف مع الأمريكان لضمان تمثيله في العراق الجديد.

سياسة الاستبداد ما قبل 2003 كانت كفيلة بإذابة الهوية الوطنية نظرًا لتفت المجتمع المدني وتكتل الجماعات وبناء حدود ثقافية منفصلة لها، وأتى الغزو الأمريكي ليستكمل "المهمة"

الأمر أعلاه، جعل مقتدى الصدر يقف بطريقة غير منظمة في المعسكر المقاوم وحيدًا وبشكل واضح شيعيًا، فيما كانت المقاومة السنية بمراحلها الأولية "مقاومة لثام"، مجاميع تنتشر في غرب العراق تهاجم الأمريكيين بشكل فوضوي، حيث مكنتهم الطبيعية الجغرافية وهجمات الكر والفر من إيقاع خسائر كبيرة في صفوف الجيش الأمريكي.

بهذا الصدد، يقول علي ناصر في حديثه لـ"ألترا عراق"، إن "معركة النجف شهدت دعمًا كبيرًا من الفلوجة، حيث كانت تصل الأسلحة والصواريخ تحت المواد الغذائية والخضروات، بالإضافة إلى وصول مقاتلين سنة يملكون الخبرة في استخدام الصورايخ وإعادة تصنيع بعضها"، مشيرًا إلى أن "مقتدى الصدر رد الجميل وأرسل عددًا من المقاتلين في معركة الفلوجة".

أضاف ناصر وهو من سكان مدينة النجف وقاتل في صفوف جيش المهدي، أن "جيش المهدي كان يعاني في نقص حاد بالأسلحة والعدد، خاصة بعد أن قطعت القوات الأمريكية الطرق فمنعت وصول الشباب من المحافظات الجنوبية للمدينة"، لافتًا إلى أن "الأمريكيين استعانوا بعناصر من المجاميع الشيعية المسلحة التي أعلنت تركها السلاح وانخراطها في العملية السياسية، مستدركًا "لكنها كانت تمتلك فرقًا خاصة للاغتيالات والمهمات الخاصة ساعدوهم في إعطاء الإحداثيات، فيما أسندت إلى بعضهم مهمة القنص في داخل أحياء المدينة، حيث ضبط الكثير منهم أثناء القتال".

من جانبه، يقول عمر سنان في حديثه لـ"ألترا عراق"، إن "السنة والشيعة كانوا يقاتلون في خندق واحد، يتبادلون الخبرة والسلاح، فضلًا عن الإحداثيات لحركة القوات الأمريكية"، لافتًا إلى أن "التعاون بدأ عام 2003 إذ مثلت عمليات ضرب القوات الأمريكية هاجسًا شخصيًا يمارسه أفراد غير منتمين لجماعات تنظيمية في المناطق الغربية في العاصمة بغداد "ذات الأغلبية السنية"، وصولًا للفلوجة".

أضاف سنان وهو من سكان غرب بغداد وأصوله تعود إلى مدينة الفلوجة، أن "معركة سوق أبو غريب الذي يقود طريقه إلى الفلوجة، شارك فيها جيش المهدي إلى جانب مقاتلين سنة شكلوا بعضهم فيما بعد اللبنة الأولى لكتائب ثورة العشرين والجيش الإسلامي، حتى أن المزاح كان طائفيًا بينهم"، مشيرًا إلى أن "المعركة كانت شرسة حيث كان المسلحون يتوزعون على شكل مجموعات في الأزقة والشوارع مما صعب على الأمريكان مواجهتهم كونهم أهداف متحركة، مبينًا أنهم "تمكنوا في تلك المعركة من إسقاط مروحيتين أمريكيتين".

وبشأن معركة الفلوجة يتابع سنان، أن "معركة الفلوجة الأولى كانت تدار بطريقة عشوائية وغير منظمة وهذا ما ضاعف خسائر الأمريكان لأنهم كانوا يواجهون فوضى نارية، مكنتهم درايتهم بالطبيعة الجغرافية للمدينة من الحركة بسهولة وبطريقة تمنع القوات الأمريكية من ملاحقتهم".

مواجهات حاسمة

في السياق، يقول الصحفي البريطاني باتريك كوكبرن في كتابه "مقتدى الصدر صحوة الشيعة، والصراع على العراق"، إن "المقاومة السنية أحرجت الأمريكان عندما أوقعت قافلة تقل حراسًا أمنيين تابعيين إلى شركة بلاك ووتر الأمريكية بكمين نصب لها في الشارع الرئيسي للفلوجة، حيث قُتل أربعة جنود، فيما علق مواطنون بعد انسحاب المهاجمين جثث اثنين من الجنود على جسر فوق نهر الفرات، مبينًا أن "الصور عرضت على شاشة التلفاز الأمريكية، وذكرت بحادثة سيئة جرت فيها جثة قائد طائرة هليكوبتر أمريكية في مقاديشو عام 1993، فيما يصفها كوكبرن أنها "إهانة موجعة للإدارة الأمريكية" وهنا يقصد عملية إسقاط الصقرالأسود الشهيرة.

أما في حديثه عن النجف، أضاف كوكبرن، حيث كان موجودًا هناك أثناء القتال، أن "الصدريين كانوا أذكياء ومدركين أن الأمريكيين ستكون جهودهم ضد المقاومة المنتشرة في عمق المناطق السنية خاصة الفلوجة"، لافتًا إلى أن "بريمر كان مصرًا على مواجهة مقتدى الصدر، خاصة وأنه كان يتلقى نصائح سيئة من قياديين في الأحزاب الشيعية، فضلًا عن رجال دين شيعة على عداء مع مقتدى كانوا يحبذون أن يرونه مقتولًا".

أحرجت المقاومة السنية الأمريكيين عندما أوقعت قافلة تقل حراسًا أمنيين تابعيين إلى شركة بلاك ووتر الأمريكية في الفلوجة

أشار كوكبرن إلى أنه "لم يكد بريمر يفرح باعتقال مصطفى اليعقوبي أحد معاوني الصدر في الثالث من نيسان/أبريل 2004، حتى تلقى مكالمة عاجلة من آمر القوات الأمريكية الجنرال ريكاردو شافيز يخبره بأن باب جهنم انفتح مع الصدر، لافتًا إلى أن "الشوارع وقتها في مدينة الصدر والنجف والكوت والناصرية تغص بالمتظاهرين ومنهم من يحمل الأسلحة"، مبينً أن "خسائر جيش المهدي كانت كبيرة لكنهم كسبوا الحرب في وقوفهم بوجه قوات بحجم الجيش الأمريكي لمدة أسابيع وانتهت المعركة دون أن يقدموا أي تنازلات يمكن أن تضعف موقفهم مستقبلًا".

ولم تكن الخسائر الأمريكية مختلفة في الفلوجة والأنبار، إضافة إلى مناطق كثيرة في غرب العراق، حيث استمرت المقاومة بطريقة عشوائية، لكنها أدت إلى أن تقصف الفلوجة ويقتل حتى المدنيين فيها عسى أن يخفف الأمريكيون من وطأة العمليات العسكرية عليهم.

شبح الطائفية يبزغ

بعد انتهاء معركة النجف الأولى ومعركة الفلوجة، ووقوف السنة والشيعة في معسكر واحد، كان من الضروري للأمريكيين البحث عما يفرق أعداءهم ويشتت قوتهم لمواجهتهم بشكل منفرد أو تركهم يتواجهون فيما بينهم.

يقول ضباط في الجيش العراقي، إن "الطائفية بدأت عندما أصبحت هناك جماعات مسلحة منظمة لها شعار وأزياء ومناطق عمليات محددة، فضلًا عن التحرك بأوراق مختومة من قبل أسماء محددة تمثل القيادات لتلك التنظيمات، فيما تحولت الأهداف إلى نوعية ولم تقتصر على الأمريكيين وإنما تحولت إلى مؤسسات الدولة والقوات الأمنية العراقية".

أضاف الضابط الذي رفض الكشف عن إسمه لأسباب تتعلق بعمله، أن "مجموعة من العوامل ساعدت على بدء الطائفية ومضاعفة الفجوة بين جيش المهدي ومقاومو السنة"، لافتًا إلى أنه "لا يستبعد دورًا أمريكيًا في تعزيز تلك العوامل والعمل على دعم كل ما من شأنه أن يجعلهم يعملون بشكل منفرد".

وبشان هذه العوامل بيّن الضابط في حديثه لـ"ألترا عراق"، أن "تأسيس التوحيد والجهاد وتمكنه من قيادة جميع الفصائل السنية بواسطة مجلس شورى المجاهدين والذي كان مركزه في منطقة اليوسفية وبقيادة عشائر واضحة، بالإضافة إلى نشاط كبير للاغتيالات ضد قيادات عسكرية وبعثية التي كانت تنفذ من قبل مجاميع شيعية ذات علاقية طيبة من الأمريكيين وقتها وتلصق بجيش المهدي، فضلًا عن طريقة التعامل مع المسلحين الذين تقبض عليهم القوات الأمنية العراقية، حيث يتم التعامل معهم على أنهم معارضون لحكومة الشيعة وليسوا مقاومين للاحتلال".

كانت هناك مجاميع مسلحة من المقاومة السنية تحالفت مع الجيش العراقي وحاولت منع تهجير السكّان الشيعة من مناطق غرب بغداد

أشار الضابط إلى أن " تنظيم القاعدة كانت يداه الأطول والأكثر بطشًا على الجميع وعمل بنسق طائفي بصورة واضحة في سنوات 2007و 2008 مما دفع كتائب ثورة العشرين والجيش الإسلامي إلى أن يتحالفوا مع الجيش العراقي وحاولوا منع تهجير السكان الشيعة في مناطق غرب بغداد للمحافظة على صورتهم وشعاراتهم التي تستهدف الأمريكان فقط"، لافتًا إلى أنه "بمرور الوقت زادت نوعية العمليات العسكرية ودقتها فضلًا عن ارتفاع المستوى القتالي للمسلحين، ونوعيتهم حيث كانت المرحلة الأولى يقاتل فيها مراهقون لا يملكون أي خبرة وليس لديهم خلفية فكرية أو فقهية، ومفهوم الهوية الوطنية ملتبسًا لديهم".

تنظيم المقاومة

بعد عام 2005 تباعد أهل المقاومة، بينما ازداد أقطاب النظام الذين جاوءا على الدبّبات الأمريكية خبرة سياسية، فضلًا عن اختراقهم للمقاومين، فالطائفية طغت على أداء المسلحين الشيعة والسنة، وبات تنظيم القاعدة وتنظيمات أخرى تستهدف القوات الأمنية العراقية وتنفذ غزوات بالمفخخات على المدن ذات الأغلبية الشيعية، وكرد فعل على ذلك، صعّدت مجاميع من جيش المهدي طائفيًا، الأمر الذي أعلن الصدر براءته منه مرارًا.

وفي عام 2007 جمّد مقتدى الصدر جيش المهدي ليلحقه تجميد آخر في 2008 بعد قتال مع الجيش العراقي، لترتيب أوراقه وفرز "أفراده من المخلصين لآل الصدر"، بحسب قيادي في التيار الصدري، فيما عمد إلى تشكيل لواء اليوم الموعود، وهو قوة سرية مكونة من أفراد جيش المهدي تم اختيار أفرادها بشكل دقيق ويشرف الصدر عليهم شخصيًا، وتنفذ عمليات نوعية ومخطط لها تستهدف القوات الأمريكية.

بعد بدء الحرب الأهلية العراقية ازدادت الفجوة الطائفية بين من كانوا يتبنون "المقاومة" وانشغلوا بالمواجهة فيما بينهم الأمر الذي أدى إلى تراجع مقاومة القوات الأمريكية

ازدادت الفجوة الطائفية في أيام الحرب الأهلية العراقية، لتكون المواجهات بين مجاميع تحمل هويات طائفية ومناطقية في غرب بغداد وبعض مدنها، ما أدى إلى تراجع المقاومة على القوات الأمريكية، فيما ظهرت بعض الفصائل الشيعية بعد 2007 والتي انشقت من التيار الصدري، ترتبط بإيران حاولت ـ وكما يرى مراقبون ـ سرقة مفهوم المقاومة لصالح ما أطلق عليه بمشروع "المقاومة والممانعة".