كما هو الحال على الأرض حين اختفى زعماء الفصائل المسلحة وبرزت جماعات "الظل"، ظهر شكل جديد من الإعلام بعد الاحتجاجات الشعبة واغتيال قاسم سليماني وجمال جعفر المهندس، في مساحة مفتوحة حيث وجدت "المنصات الولائية"، كما عرفت لاحقًا، ضالتها في تلغرام عقب تقييدها في فيسبوك وبعض التطبيقات الأخرى.
وجدت المنصات المرتبطة بالفصائل المسلحة نفسها محاصرة لأول مرة منذ ظهورها إلى جانب جماعات الظل المسلحة
ظهرت هذه المنصات منتصف عام 2020، وبسرعة تحوّلت إلى أعلى أصوات الفصائل المسلحة في وجه الناشطين المطالبين بالعدالة والخدمات، وكذلك المعارضين السياسيين، مستفيدة من أموال طائلة تسربت من الموازنات الرسمية إلى مكاتب زعماء الفصائل بينها 2.16 مليار دولار خاصة بالحشد الشعبي.
أموال طائلة ونفوذ
كما استثمرت قدرتها على الوصول إلى الوثائق والمعلومات الأمنية والسياسية، في تهديد مسؤولين وضباط في الأجهزة الأمنية والاستخبارية نهاية ولاية حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، والذي لم ينجح في التصدي أو الحد من نشاطها على الأقل.
ولعبت "المنصات الولائية"، التي استخدمت أسماءً شعبية طائفية ومناطقية، أبرز أدوارها بعد الانتخابات التشريعية عام 2021، حين منيت القوى والفصائل الشيعية بخسارة فادحة أمام زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، حيث حشدت للاحتجاجات الشهيرة قرب الجسر المعلق وتبنت أنواعًا من "سيناريوهات المؤامرة" للطعن في النتائج.
ومع هدوء فورة الصراع بانسحاب الصدر، احتفلت المنصات بمرحلة محمد شياع السوداني، رئيس حكومة الإطار التنسيقي والفصائل المسلحة، وقادت دعايته المرتكزة على "الخدمات والتبليط"، بعد أن اجتذبت مئات آلاف المتابعين.
استرخاء هذه المنصات لم يدم طويلاً، إذ باتت اليوم في مواجهة غير مسبوقة مع الحكومة إثر قرار حجب تطبيق تلغرام، والذي قالت الحكومة إنّها اضطرت إليه لـ "حماية الأمن القومي والسلم المجتمعي".
وأعلنت وزارة الاتصالات، الأحد 6 آب/أغسطس، حجب تلغرام بعد 24 ساعة من تقييده في مناطق البلاد باستثناء إقليم كردستان، وهو ما أثار غضب "المنصات الولائية"، التي فتحت على الفور النار على السوادني وفريقه الإطاري، ورمتهم بتهمة محاصرة "المتنفس الوحيد للإعلام المقاوم"، بدفع من الولايات المتحدة الأمريكية التي تحظر أي شيء يتعلق بالفصائل.
صداع تلغرام.. الرسالة وصلت!
وتدار أكبر المنصات "الولائية" الناشطة على تلغرام من قبل "كتائب حزب الله"، كما يؤكّد مهندس اتصالات عمل مع بعض هذه المنصات لـ "الترا عراق".
مثل قرار الحكومة رسالة شديدة اللهجة إلى فصائل محددة تشرف على منصات التلغرام "الولائية"
ويقول المهندس الشاب مشترطًا عدم كشف هويته، إنّ "القرار مثل ضربة كبيرة لهذه المنصات، ومن يقف وراءها فهم رسالة الحكومة".
ويضيف، أنّ قرار الحجب صدر "بعد أن امتنع القائمون على هذه المنصات عن تخفيف نبرتها والتهدئة السياسية قبيل الانتخابات، وتعذر إغلاقها بشكل منفرد"، مبينًا أنّ "القرار في صميمه محاولة لتحديد تأثير منصات محددة لا تتبناها أي من الأطراف السياسية أو الفصائل المسلحة صراحةً، وتمثل صداعًا مزعجًا للحكومة وبعض الجهات التي تريد تهدئة شاملة لحين انتهاء الانتخابات".
ويؤكّد الخبير في مجال الاتصالات، أنّ "الجهات القائمة على المنصات الولائية تخشى أن تتخذ الحكومة خطوة أكبر، يضطرون معها إلى إغلاقها، إذ ما تزال فاعلة بقوة باستخدام تطبيقات كسر الحظر".
ورصد "الترا عراق" انخفاض مشاهدات المنصات المرتبطة بالفصائل المسلحة على تلغرام، على الرغم من ارتفاع أعداد المتابعين بعد نحو 48 ساعة من قرار حظر التطبيق.
وانقسمت القوى السياسية المنضوية في الإطار التنسيقي حول قرار الحكومة حجب تلغرام، بين معارضة شديدة عبر عنها قادة وزعماء فصائل بينهم "أبو آلاء الولائي" فضلاً عن مدونين على صلة بالفصائل، ودعوات لـ "فرز أعداء الدولة"، كما قال زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي.
وكتب المالكي عبر حسابه في "إكس"، أنّ "العراق بلد ديمقراطي يؤمن بحرية الإعلام والتعبير، ويعدّ ذلك حقًا أساسيًا، لكنه ليس مطلقًا"، ورأى أنّ قرار حجب بعض مواقع التواصل الاجتماعي لـ "دواع أمنية يجب أن يفرق بين المنصات الداعمة للدولة والحكومة، وتلك التي تحرض على الكراهية والعنف والتعدي على خصوصية الآخرين".
تلغرام.. البداية فقط
ويصف النائب عن ائتلاف المالكي محمد الزيادي قرار حجب تلغرام بـ "الجيد"، ويقول لـ "الترا عراق"، إنّ "مثل هذه القرارات هي مسؤولية الدولة لمنع مرتكبي الجرائم، ومنع العبث بمعلومات الدولة ومواطنيها"، مشيرًا إلى "ضرورة العمل بشكل جدي بين البرلمان والحكومة لوضع لائحة ضوابط تحدد عقوبات الاستخدامات المسيئة لتطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي".
تريد أطراف سياسية بينها ائتلاف المالكي فرض قيود أكبر على مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي
ويرى الزيادي، أنّ "عقوبة جرائم تسريب وثائق الدولة التي تقتصر على غرامة بقيمة 500 ألف دينار، غير كافية، ويجب فرض ضوابط أشد وعقوبات رادعة"، مطالبًا الحكومة بـ "معاقبة من يقف وراء الاتهامات والتسقيط السياسي".
وكشف الزيادي، أنّ البرلمان "يعتزم عقد اجتماع خلال الأسبوع المقبل مع المسؤولين في وزارة الاتصالات، لمناقشة الخطوات القادمة، بالإضافة إلى خطوة الحجب، والتي ستنظم عمل مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات سيئة الصيت".
قرار متطرف؟
لأطراف أخرى على صلة بالإطار بدا قرار الحكومة متطرفًا، وسط دعوات لتوجيه الجهد نحو "قنوات الفتنة"، كما يصطلح على بعض المنصات النشطة على تلغرام.
ويقول الأمين العام لحركة حقوق سعيد السراي لـ "الترا عراق"، إنّ "قرار الحكومة لا يستهدف الجهات التي تمارس حرية الرأي والنشر بالشكل السليم"، مبينًا أنّ "القرار صدر بعد إثبات تسريب وثائق ومعلومات تتعلق بالأمن القومي، إلى جانب الشائعات المضللة".
ولا يعتقد السراي، أنّ إغلاق هذه المنصات "يندرج تحت سياسة تكميم الأفواه"، ويشدد على أهمية إغلاق "المنصات القائمة على جيوش إلكترونية ترتبط بجهات خارج العراق".
في ذات الوقت يرى أمين عام "حقوق"، أنّ إجراءات الحكومة في هذا الصدد يجب أن "لا تؤثر على جميع المستخدمين"، ويقول إنّ على الحكومة "تشخيص الفاعل الحقيقي والمرتبط بالخارج من المؤثرين على الرأي العام، ومثيري الفتن، ومن يستفيد من ذلك، ليكون هناك هامش لحرية الإعلامي والباحث والناقد للتعبير عن رأيهم بطريقة مهنية مقبولة".
ويعتبر السراي، إغلاق تطبيق كامل أمام كل مستخدميه بسبب قناة واحدة "أمرًا غير جائز، وبعيد عن الشفافية".
تلغرام خارج سيطرة الحكومة؟
من جانب آخر، تواجه إجراءات الحكومة للسيطرة على المنصات المستهدفة في تلغرام عقبات أخرى إلى جانب برامج كسر الحظر، منها حزم الإنترنت المهربة وبعض شركات الخدمة التي لم تنفذ قرار الحجب، فضلاً عن مناطق إقليم كردستان.
ويقول المختص في الأمن السيبراني الحسن عباس لـ "الترا عراق"، إنّ "جهاز الأمن الوطني هو المسؤول الأول عما يتعلق ببيانات الإنترنت، إلى جانب وزارة الاتصالات وهيئة الإعلام والاتصالات".
وفي 5 تموز/يوليو الماضي كلف السوداني القيادي في حزب الدعوة والمقرب من نوري المالكي "أبو علي البصري"، برئاسة جهاز الأمن الوطني، ضمن حملة شملت المناصب الرفيعة في جهاز المخابرات والاستخبارات.
استمرت تطبيق تلغرام بالعمل على الرغم من قرار الحظر عبر بعض الشركات التي لا تسيطر الحكومة على مصادر خدمتها
ويوضح عباس، أنّ "هذه الجهات تمتلك 3 خيارات فقط بما يتعلق بتقييد المنصات والبيانات، يتمثل الأول بقطع الخدمة بشكل تام، أو مطالبة شركة معينة بإرسال بيانات موقع أو منصة تمارس النشر بطريقة مخالفة للقانون وفقًا لأوامر تحري قضائية، أو مطالبة تلك الشركات بإغلاق المنصات أو المواقع ذاتها".
ويبيّن أيضًا، أنّ "الشركات لا تستجيب غالبًا لطلبات الحكومة من هذا النوع، باعتبارها مخالفة صريحة لحق التعبير المكفول عالميًا"، مشيرًا إلى أنّ "ما قامت به شركة تلغرام بتجاهل طلبات الحكومة العراقية بشأن بعض المنصات على تطبيقها في العراق، يؤكّد ذلك".
كما يشير إلى أنّ "بعض الشركات التي تقدم خدمة الإنترنت لم تتضرر من قرار الحجب، لامتلاكها مصادر ربما لا تسيطر عليها الحكومة، ولذلك ترى التطبيق يعمل عليها بشكل طبيعي لدى بعض الشركات الخدمة"، مؤكدًا أنّ "الحكومة ربما لا تريد استهداف جهات أو منصات بحد ذاتها، بقدر رغبتها بمنع وحد تسرب الوثائق والمعلومات من قبل هذه الجهات في إجراء تحذيري ووقتي كما يحدث الآن".
ماذا عن وسائل الإعلام؟
مقابل كل هذا، وجدت الكثير من وسائل الإعلام والناشطين وصناع الرأي أنفسهم مقيدين في خندق واحد مع "المنصات الولائية".
واستعانت الكثير من المؤسسات في السنوات الأخيرة بتطبيق تلغرام لنشر المحتوى والوصول إلى متابعيها بشكل أفضل في ظل التعقيدات والقيود المفروضة في تطبيقات أخرى مثل فيسبوك.
وفي هذا الصدد يرى العضو السابق في المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق علي البياتي، حجة الحكومة لحجب تلغرام "واهية".
ويقول البياتي لـ "الترا عراق"، إنّ "التطبيقات كثيرة، وكلها تضم قواعد بيانات قابلة للاختراق، وإنّ كان هذا مبرر الحكومة فعليها حجب كلّ التطبيقات وليس تلغرام فقط".
ويقلل البياتي من جدوى هذه الخطوة بالإشارة إلى سهولة تجاوز الحجب عبر التطبيقات المتاحة، كما حدث بالنسبة للمواقع الإباحية التي اتخذت وزارة الاتصالات قرارًا سابقًا بحجبها.
ويؤكّد البياتي، أنّ "قرار الحكومة يخالف القانون والدستور، في غياب قوانين واضحة بما يتعلق باستخدام خدمات وتطبيقات التواصل".
ويشر البياتي، إلى ضرورة "إعداد مسودة قانون حكومة خاص بإدارة وسائل وتطبيقات السوشيال ميديا، يتيح حجب القنوات والحسابات التي تنتهك بيانات المواطنين، وتهدد أمن الدولة، وليس التطبيق بالكامل".
العقاب الجماعي!
هيئة الإعلام والاتصالات بدورها، رفضت طلب "الترا عراق" للتعليق عن تأثير القرار على حرية وسائل الإعلام في البلاد، واكتفى المتحدث باسمها حيدر نجم بالإشارة إلى أنّ "الهيئة ليس لها علاقة بالقرار".
فيما يقول الأكاديمي في مجال الإعلام مسلم عباس إنّ "الحكومة العراقية اعتادت انتهاك حقوق المواطنين وسياسة العقاب الجماعي، عندما تفشل في تنفيذ المهام الموكلة إليها، كما في قرار قطع الإنترنت أثناء الامتحانات، والآن حجب تطبيق تلغرام".
أثار قرار الحكومة انتقادات مختصين في مجال الإعلام الذين نصحوا بتعزيز "الأمن السيبراني" بدل "العقوبات الجماعية"
ويشير عباس في حديث لـ "الترا عراق"، إلى أنّ "ربط القرار بالأمن القومي مغالطة كبيرة، إذ تمتلك الجيوش الإلكترونية التابعة للقوى السياسية المهيمنة الأدوات اللازمة لكسر الحجب الحكومي".
ويتمثل الجانب الأسوأ في هذه الإجراءات، والكلام للأكاديمي، في "انتهاك حق المواطنين في النفاذ إلى وسائل الاتصال المنصوص عليها قانونًا".
ويرى عباس، أنّ "الإجراء الأفضل يتمثل في تعزيز الحماية السيبرانية للبيانات الحكومية والمواطنين على حد سواء، وفرض عقوبات مشددة بحق الجهات التي يثبت تورطها في تسريب البيانات، خاصة وأنّها معروفة للحكومة".