قد لا ينفر أحدٌ له عقل في العالم من "فحوى" دعوة وجهها رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي لحوار وطني يجمع بين الفعاليات السياسية والاجتماعية والاحتجاجية والمعارضين للحكومة؛ فالحوار، أساسُ البنيان الرصين لكل علاقة سواء أكانت بين الأطراف السياسية فيما بينها، أو بين الطبقة الحاكمة والمحكومة خصوصًا في الأنظمة الديمقراطية، وينسحب ذلك إلى العلاقات الإنسانية الفردية بمختلف أشكالها.
كان اغتيال والد المغيّب علي جاسب بعد عام ونصف العام من اختطاف ابنه، أبلغ رسالة ترد على دعوة الكاظمي لـ"حوار وطني"
وما لا يختلف عليه اثنان أيضًا، هو أن شرط الحوار وجود أرضية للحوار، صالحة لأن تكون العملية ذاتها ذات قيمة حقيقية واقعية لتعطي آنذاك نتائج ملموسة. وتلك النتائج يُفترض أن يتفق عليها المتحاورون ابتداءً، فالاختلاف ليس هو المشكلة، بل عدم الاتفاق على الهدف المرجو والآلية التي تقود للهدف.
إذن، شروطٌ عدّة يتطلبها إجراء الحوار ليكون مُطلِقَهُ لا يهذي. ولأن الشروطَ غطست في وحل الفوضى الناجمة عن ضعف الدولة والقانون وعدم بسط يد القوات الأمنية واختراق بعض أجهزتها، فقد كانت ردة الفعل الشعبية على دعوة الكاظمي ساخرةً كما أوضح ناشطون في مختلف المواقع، وبخلاف ما يدّعيه "مستشارون ومحللون" من ترحيب لاقته تلك الدعوة.
اقرأ/ي أيضًا: دعوة الكاظمي يُجيب عليها السلاح.. المدعوون لـ"الحوار الوطني" بين قتيل وهارب
وبغض النظر عن الرأيين، فأن الرصاصَ أصدق أنباء من الحوار. كان اغتيال والد المغيّب علي جاسب بعد عام ونصف العام من اختطاف ابنه، أبلغ رسالة ترد على الكاظمي من جهة، وتُعيد العراقيين إلى واقعهم إن كانت زيارة بابا الفاتيكان قد أغرقتنا في نشوة.
أصبح الحديثُ عن تسويات تاريخية واتفاقات شرف بين الكتل السياسية ذاتها مملًا، فالمذكورون يتفقون على أسس رصينة كالمحاصصة من حيث الفكرة، والفساد من حيث المبدأ، ثم يختلفون على الطريقة. أما اليوم، فالحوار دون الحراك الشعبي لا يعني شيئًا إذا ما كان الهدفُ هو إعادة ثقة المجتمع بالعملية السياسية كما يقول السياسيون. ومن هنا، فأن حوارًا بين مهددين بالخطف والاغتيال مع مافيات السلاح يبدو سخيفًا لا معنى له.
إن التطور الطبيعي للنظام الديمقراطي، والمخاض الذي تُحدثه الخلافات بين التوجهات ثم يقود إلى اتفاق، والوحدة التي تأتي بعد فرقة، كل ذلك تخترقه طلقات الأسلحة الكاتمة للصوت، المدوّية بفعلها والدماء التي تسفكها.
ربما لم يعد الحديث عن صعوبة إنتاج حوار شعبي – سلطوي جديدًا أو مميزًا، لكن المثير هو إطلاقه من قبل حكومة عاجزة باعتراف الجميع عن حماية أمن الناس ومصالحهم. عاجزة عن فك قيد المختطفين، أو إيقاف عمليات الاختطاف. عن كشف قتلة المتظاهرين وعن حماية الناشطين الأحياء. إنها عاجزةٌ عن الوفاء للأموات وضمان حياة الأحياء.
المشكلةُ ليست في التأكيد على فجاجة فكرة الحوار مع قاتل لا يتراجع عن إجرامه، فالكثير من الناشطين والفاعلين في الاحتجاجات يعون ويؤمنون بذلك؛ بل أنها – أي المشكلة – في إيمان المسؤول التنفيذي الأكبر بجدوى الحوار والتعايش بين القتلة والمقتولين دون ردع القاتلين، والذي ربما ينبع من إيمانه بعجزه عن القيام بواجبات القائد العام للقوات المسلحة. وما يعزز وجهة النظر هذه، حديثه عن ترك المصالح الشخصية لسنة واحدة! .. إن الرجل لا يعيش معنا.
لم يعد الحديث عن صعوبة إنتاج حوار شعبي – سلطوي جديدًا أو مميزًا، لكن المثير هو إطلاقه من قبل حكومة عاجزة باعتراف الجميع عن حماية أمن الناس ومصالحهم
لقد كانت الجماعات المسلحة في ولاية عادل عبد المهدي تضبط سلوكياتها (نسبيًا) لكي لا تحرج كثيرًا صديقها الذي منحها امتيازات كبيرة، لكنها الآن تستعدي الكاظمي وتتفنن بإحراجه عبر إحداث القلاقل، وهو الفرق الذي على الكاظمي معالجته قبل الدعوة إلى الحوار.
اقرأ/ي أيضًا:
العبث في أمن بغداد.. دليل على فقدان الصواب أيضًا
أب مكلوم طارد زعيم ميليشيا.. اغتيال ينهي رحلة مريرة في "مدينة الموت"