13-سبتمبر-2019

التذمر وحده لا يصنع التغيير (AFP/Getty)

 بعد إرث الطغيان الثقيل، وعقود التنكيل والإذلال، خرج الشعب العراقي من هذا الكابوس مثقلًا بالأمنيات، لكنّه يعجز عن الوصول إلى الكيفية المناسبة لخلق المقدمات، للانتقال من مفهوم الجماعة القائمة على الروابط القبلية، إلى المجتمع القائم على علاقات عقلانية ومؤسسات دستورية تنظم سير حياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبالطبع إن خلق هذه المقدمات لا يصنعها عامة الناس، وإنما النخب الثقافية المتعلمة والمهمومة بالتغيير. غير أن الوضع العراقي يفتقر لهذه النخبة المهمة التي تعنى بتغيير الواقع، فيتم تعويض هذا الفراغ القاتل بثقافة الإدانة؛ لا شيء سوى الإدانات والتذمّر، وهذه الأخيرة لا تغير الواقع ولا تحلله بقدر ما تصادق عليه وتكرره. بكلمة أخرى: إن هذه الإدانات لا تخلق نخبًا سياسية تغير مشهدنا المأساوي. هي أشبه بالمفرقعات؛ تصدر وهجًا جميلًا في السماء وتمتع أبصارنا، لكن سرعان ما تتلاشى في الأفق.

 الإدانات لا تخلق نخبًا سياسية تغير مشهدنا المأساوي. هي أشبه بالمفرقعات؛ تصدر وهجًا جميلًا في السماء وتمتع أبصارنا، لكن سرعان ما تتلاشى في الأفق

 من دون شك إن ثقافة الإدانة هي ذات دوافع نبيلة في الغالب، وقوّة ناعمة تندرج ضمن النشاطات الثقافية التي يتداولها المعنيون بالتأثير على الرأي العام. لكنّ الرأي العالم يبقى يدور في دائرة مغلقة ما لم تفرز قواه الاجتماعية تنظيمًا سياسيًا يمثل تطلعاته السياسية، ويعكس رغباته الحقيقية في تغيير الواقع السياسي نحو الأفضل. إن تنوير الرأي العام لا يأتي ثماره عبر الإدانات فحسب، إنما في استثمار هذه الثقافة على الصعيد العملي، أعني بها، قوة سياسية منظمة تستثمر هذه الإدانات والتذمر المستمر إلى فعل سياسي خلاق.

اقرأ/ي أيضًا: طقوس عاشوراء.. الاكتفاء بـ"اللطم" ونسيان الحقوق!

فلنعط مثالًا لواقعنا السياسي المتناقض: ندين التدخل السافر للدول المجاورة  في إدارة الملف السياسي العراقي، في حين أن الغالبية العظمى من الأحزاب الحاكمة تنتظر العرّاب الإقليمي في إنضاج قصورها السياسي، أو بعبارة أدق: أن ترد الجميل لهذا العرّاب مقابل احتضانه لهذه الأحزاب التي قاتلت من أجله فيما مضى!. ندين القوة الإمبراطورية الأمريكية المهيمنة التي دعمت كل هذا الخراب "تأديبًا" للشعب العراقي، حينما كان نظام صدام حسين مدللًا من قبلهم، ولم يكفيها كل هذا التنكيل، فأحالت البلد إلى جحيم لا يطاق.

في الحالتين لا توجد قوة موازية تماثل حجم هؤلاء، وبما أننا لا نتملك سوى أضعف الإيمان، فنكتفي بالتنديد والإدانة. ونحن نعلم جيدًا أن واقعنا السياسي المتناقض لهو أكبر وأقوى وأمضى من كل الإدانات مهما كان حجمها ونوعيتها. وضمن هذه الدوامة ينقسم العراقيون إلى جاليتين: الأولى لا تتذكر العراق إطلاقًا وترتبط بدول الجوار عقائديًا، والعراق في نظر هذه الجماعات، في أحسن حالته، عبارة عن كيس مملوء بالنقود: وظيفتهم أن يأكلوا من خيراته فحسب.

الجالية الثانية: جالية الأحلام السعيدة، تحاول هذه الجالية أن تقنعنا بحقيقة هذه الديمقراطية "النقية"، وينتقدون من يعارض "ديمقراطية الطوائف"، ويتبعدون عن نقد السياسة الأمريكية، ويبحثون عن "بعبع" يسقطون عليه جميع مشاكلنا حماية للسمعة الأمريكية، فيتحولون إلى أمريكيين أكثر من الأمريكيين أنفسهم. ولو فهمنا السياسات الأمريكية، في نظرهم، لأمطرت السماء علينا ذهبًا وفضة. ولا يهمهم لو تحول البلد إلى رماد، طالما يتنعمون بنعمهم الخاصة ويعكسون مصالحهم الفئوية الضيقة. هؤلاء هم الانسداد التاريخي بعينه.

الخروج من  المعضلات ليس بالإدانات وحدها!، بل في تنظيم موازٍ ضمن برنامج عمل وطني ديمقراطي

وبالطبع إن الخروج من  تكتلات هاتين المعضلتين ليس بالإدانات وحدها!، بل في تنظيم موازٍ لهاتين الجاليتين ضمن برنامج عمل وطني ديمقراطي، لا يساوم على بلده من أجل مصالحه الفئوية أو الحزبية أو الطائفية والعرقية.

اقرأ/ي أيضًا: العراق.. بلد المرويات الحزينة

نحن ندور الآن في دائرة مغلقة بإحكام، وبحسب الدور المنطقي فإن ألف متوقفة على باء وهذه الأخيرة متوقفة على ألف، وهلم جرا: ندين السلطة السياسية الفاسدة، وهذه الأخيرة لا تحفل بإداناتنا، ويتضخم الوضع السياسي الفاسد فنرجع للإدانة، لكن لا نتملك القوة  التنظيمية المؤثرة وهكذا دواليك!

يخبرنا التاريخ السياسي، إن شعوب شرق آسيا، وأوربا وأمريكا، وجزء من أفريقيا، لم تكتف بالإدانات والتذمّر الشعبي الفوضوي، بل وظّفت كل إمكانياتها التنظيمية لتحوّل هذه الفوضى الشعبية إلى فعل سياسي خلّاق. فانقلبت من أفعال شعوبية وطقوسية فارغة! إلى حراك جماهيري منظم انتزع حقوقه المستلبة، بدلًا من الإدانة التي تضحك الفاسدين أكثر مما تزعجهم. فالخطوة الأولى نحو تحريك الركود السياسي، هو بتنظيم سياسي يستثمر ويوظّف هذه الشعبوية التي تنتشر في المشهد السياسي العراقي انتشار النار في الهشيم.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل يملك الضعفاء ترف الاختيار؟

صنّاع الاحتقار الجدد في العراق