لن أنسى ذلك المشهد الكوميدي الذي بثه التلفزيون عن شكوى صدام حسين من الفاقة التي يمر بها، وعن قلّة ما يرتديه من ملابس جديدة باعتباره رئيسًا للعراق. وأنه كمواطن عراقي يستخدم البطاقة التموينية، وكيف أنه أضاعها. بهذا المشهد المسرحي الغريب لم يكن صدام حسين قلقًا من ردود الأفعال تجاه هذه الضحك على الذقون، فمن يجرؤ!. إذ لم يعمل أي حساب في يوم ما تجاه العراقيين، فقد كان مطمئنًا من عمليات التدجين التي قام بها طوال ثلاثة عقود.
إن التهكّم ليس احتقارًا للآخر، وإنما هو محاولة لنفي الجوهرية من الأشياء. بمعنى، حينما اتهكّم من شيء ما فانا بهذه المحاولة أنفي أي جوهرية مزعومة
لقد كان يتحدى "المواطنين"، أو بعبارة أوضح، كان الفرد العراقي محتقرًا ولا يحسب له حساب. حتى أنه كان يولي أهمية، في أحد اللقاءات التلفزيونية، لتعاليم الدخول إلى الحمام، وكيفية الاستحمام والاهتمام بالنظافة. ولتهكم صدام حسين و"تحشيشه" على العراقيين أرشيف كامل يوضح لنا إلى أي درجة يمكن أن يصل الاستخفاف بالبشر. لقد كانت محاضراته" الفريدة" في كيفية تنظيف الإبطين بالصابون والتخلّص من رائحة العرق، تعرض من على شاشات التلفزيون. ويظهر أن السيسي قد مسّه طائف من الإلهام من قبل الرئيس الراحل صدام حسين، وإن كان السيسي أكثر ضراوة في تحطيم الأعصاب، ذلك إن مشهد السيسي يتكرر كل يوم ليمعن في إهانة الشعب المصري عن طريق أدائه الكاريكاتوري الهابط.
اقرأ/ي أيضًا: استدعاء الدكتاتور صدام حسين.. الحاجة إلى البطل!
لكن هل كان صدام حسين يستخدم التهكم لمدلولاته الفلسفية؟!. يفكّك أحد الفلاسفة معنى التهكّم ويصل لنتيجة مفادها: إن التهكّم ليس احتقارًا للآخر، وإنما هو محاولة لنفي الجوهرية من الأشياء. بمعنى، حينما اتهكّم من شيء ما فانا بهذه المحاولة أنفي أي جوهرية مزعومة. مؤكد إن هذه المحاولة العظيمة، والشاعرية للغاية، بعيدة جدًا عن مخيلة صدام حسين الرديئة، ولم يكن ليحلم بها حتى لو قدر له العيش لقرون!، بمعنى، أنه لم يكن متهكمًا، فلم يكن الرجل يتمتع بهذه الخصوبة، بل كان يضمر العداء لشعبه، وكان مرتابًا تجاه كل عائلة عراقية حافظت على ثباتها حتى الرمق الأخير. ولكي يفرغ عقده الدونية ويتحدى هذا الشعب الأعزل كان يتسلّى باحتقاره وتحديه علناً: أنا أتحداكم وأشعركم بدونيتكم، أعلم أنكم لا تصدقون ما أتكلم به، فانا متعمد لأحطم آخر لحظة احترام للذات تنعمون بها.
والسؤال الذي يخامر أذهاننا: لماذا يحتقر السياسيون الشعب العراقي بكل هذا الصلف والتحدي، ويعلنون من شاشات التلفزيون أنهم لا يملكون شيئًا، وهم يصورون هذه اللقاءات من قصورهم الفارهة؟. لقد كان صدام حسين تفتك به عقدة الدونية والانتقام من شعب لم يفعل له شيئًا يذكر، بل على العكس، لقد قاتل هذا الشعب بضراوة من أجل عرش صدام وتثبيته، وتحمل عذابات الحصار الأمريكي المنحط، وكان الكثير من الناس "يهوّس"، ويعربد له. وقد أعاد هذا الشعب السيناريو القديم تماماً؛ فقد أظهرت لنا عراق ما بعد صدام حسين "تيجان رؤوس" جدد ويتمتعون بقداسة خاصة.
لقد دلل العراقيون هؤلاء السياسيين دلالًا لم يحلموا به؛ انتخبوهم، مكنوهم من رقابهم، جمعوا شملهم بعدما كانوا لا شيء يذكر، قاتلوا واستشهدوا من أجلهم!، مكّنوهم من خزائن العراق التي يحسدهم عليها قارون (لا أدري إن كان الكثير منهم قد حلم يوماً ما بارتداء بذلة رسمية أو من هذا القبيل!). ببساطة شديدة: لقد حدث لهم ما لم يكن بالحسبان.
ماهو جزاء العراقيين؟: كان جزاؤهم أقصى حالات الاستفزاز والاحتقار. يفهم الكثير منّا إن ما يصرّح به السياسيون من أنهم يعانون الفقر، أو لا يملكون رصيدًا في أحد البنوك، أو أن المرتبات لا تكفيهم، يفهم من هذا انه حالة استغفال. إن للاستغفال جيوش من المحترفين يديرون مؤسسات محترفة تحاول تخدير الرأي العام لكي يتسنى للطبقة الحاكمة تمرير مشاريعها. يذكر أحد الباحثين، تحاول الطبقة السياسية الأميركية صناعة "بعبع" يخيف المواطن الأمريكي، وعلى الطريقة الهوليودية يلجأ صناع القرار لتضخيم الدور الصيني العسكري، على سبيل المثال، وخلق سيناريوهات صِدامية مع الصين لكي يوافق الكونغرس في نهاية المطاف على المبالغ الهائلة للميزانية العسكرية.
لماذا يحتقر السياسيون الشعب العراقي بكل هذا الصلف والتحدي، ويعلنون من شاشات التلفزيون أنهم لا يملكون شيئًا، وهم يصورون هذه اللقاءات من قصورهم الفارهة؟
أما ما يحدث في العراق فهو ليس استغفالًا ولا يحتاج لمثل هذه السيناريوهات الأمريكية المحترفة والتي هي في نهاية المطاف تصب في صالح الأمن القومي الأمريكي وليس أمن القصور الفارهة!، بعبارة واضحة، إنه أمر بسيط للغاية: عليك أن توجه خطابًا تحقيريًا واستفزازيًا يهين ذكائنا البشري، وستجد الرأي العام مشغولًا - كما يذكر الروائي حمزة الحسن – بالدعوة لحرق كتب أحد الشعراء العراقيين، لأنهم تجاسروا على الشعب العراقي!، أو تعذبه إنسانيته تجاه حقوق المرأة، المهم يبقى متذمّرًا، فاحتقار العراقيين من قبل الطبقة الحاكمة ملف لم يحسم موضوعه بعد.
اقرأ/ي أيضًا: