23-أكتوبر-2020

لا تبدو مخاضاتنا حقيقية، بل ربما نفتعل المخاض (Getty)

يخطئ بعضنا حينما يراهن على الصيرورة كقانون حتمي النتائج. كما لو أن تراكم الأحداث يكفي كسبب منطقي ليفضي بنا إلى نتائج إيجابية. تراكم الأحداث ليست كتراكم الأحجار والأخشاب ونحو ذلك، بل يصحبه حشد هائل من المعارف والخبرات، لإحالتها في نهاية المطاف إلى سياسات عملية تدخل حيّز التطبيق. ولا ترى هذه السياسات النور مالم تعثر على نخبة سياسية مستنيرة تفتح لها الطريق. فماعدا ذلك سيرتهن واقعنا وأحلامنا بالدائرة المغلقة. إن الصيرورة لا تتحرك ضمن حركة خطية مستقيمة، بل صيرورات عدّة، تقابلها انغلاقات عدّة. وتبرز هذه الصيرورات والانغلاقات بجلاء في واقعنا السياسي والاجتماعي؛ فالشيعة، والسنة، والأكراد، صيرورات ثلاث كل منها يفضي إلى عالمه الخاص! ولا ينصهر هؤلاء الثلاثة في مركّب واحد يجمع تناقضاتهم ليظهر في النهاية على شكل دولة!

التناقضات السياسية والاجتماعية في العراق تبتلع المفكر ولا يبتلعها هو

لكي تفضي صيرورتنا إلى نتائج إيجابية وآثار ملموسة، ينبغي تحضير المقدمات، وأبرزها هو الوعي بالصيرورة، أي أنك واعي بما يحدث. أكثر من ذلك، إنك واعي بحجم التناقضات، وتحلل الواقع طبقًا لتناقضاته الخاصة لا أن يبدو الواقع في ضفّة وتحليلاتك الرغبية في ضفّة أخرى. فيبرز لنا واقعان: واقع التناقضات الحقيقية، وواقع رغباتك الشخصية التي تسلّطها على الأحداث لتجري كما تريد رغباتك لا كما يريد الواقع. والنظرة لهذا الأخير لا يعني أننا نستسلم لتداعياته، بل نستمد مفاهيمنا من داخل تياره، فتغدو المفاهيم مصابيح كاشفة ومادة تحليلية مهمة للكشف عن التناقضات التي تتحكم بسير العملية السياسية والاجتماعية.

اقرأ/ي أيضًا: تحديات جسيمة ورهانات غائبة

مؤكد أن هذه العملية العويصة والمعقدة لا تتوفر للكثير من الناس، ذلك إن الأعم الأغلب تستهويه الخرافات الشعبية والسرديات المزيفة. ولهذه الأخيرة وقع رهيب في نفوس العامة، وبالخصوص في المجتمع العراقي الذي غادر مفهوم الدولة طيلة حكم الاستبداد في تاريخ العراق السياسي والاجتماعي. إن التناقضات السياسية والاجتماعية في العراق تبتلع المفكر ولا يبتلعها هو! ذلك أنه طوال العقود الستة الماضية لم يتبلور وعيًا ثقافيًا خارج إطار الحزب أو العشيرة أو الطائفة. وما عدا ذلك ثمّة أفراد منبوذون من قبل الاستبداد الاجتماعي، ولا يشكّلون قوة تغيير يمكن الاعتماد عليها. خصوصًا أن هذه العقود الستة كانت نهايتها على يد المثقف الطائفي الذي أحكم الدائرة بإغلاق تام!

في مخاض العقود الثلاثة البعثية المنصرمة لم تنتج وليدًا واضح المعالم. إنه تناقض مشوّه وتحطمت فيه وحدة الأضداد، فأنتج لنا ثلاثة مسوخ، وثلاثة مراكز للقرار، وثلاثة شعوب! وضمن هذه الدائرة المغلقة تهيمن على وسطها هذه القوة المذكورة، ووظيفتها الأساسية هي إحكام الدائرة والجهاد من أجل الانسداد. لقد وجدت هذه المسوخ الثلاثة جمهورًا واسعًا يسهم في ديمومة سلطتهم، فتكوّن مركّب سياسي جديد ناشئ من الاعتماد المتبادل بين السلطة السياسية وفئات كبيرة من المجتمع: الجمهور الكردي ثابت لا يتزعزع، والجمهور السني مال إلى الهدوء والانزواء بفعل الضربات الموجعة التي تلقّاها، والجمهور الشيعي جمهور عقائدي أولًا وبالذات، ولا توجد لديه إرادة حقيقية لاستبدال رموزه السياسية.

 إن الوحدة التركيبية التي تعتمد عليها هذه السلطات الثلاثة، والشعوب الثلاثة، ليس التاريخ والجغرافية عمومًا، ليس الدولة كوحدة توليفية كبيرة، بل يجمعهم مجتمع السقيفة "منّا أمير ومنكم أمير". بتعبير آخر: إن الجامع المشترك بين هؤلاء هو سلطة المغانم؛ يتوقف مقدار قبولها وإذعانها للأمر الواقع على كمية السلطة الممنوحة لها. وهي على استعداد دائم لتجاهل سؤال الدولة طالما يتحقق وجودها في السلطة، ويتحقق معها مقدار الهبات العظيمة التي توشك على إفراغ البلد من ثرواته الهائلة.

 المجتمع المضطرب لا يرى إلّا ما يرغب، والنخبة السياسية المستنيرة ترى أبعد من ذلك. ونحن مجتمع مضطرب بلا نخبة

من زاوية أخرى، يجاهد الجيل الجديد لاجتراح ممكنات جديدة في الفكر والحياة. لكنّه يصطدم بدعامتين: فقر الأدوات، وعنف السلطة. وحتى هذه اللحظة يرفض القائمون على الحدث الاحتجاجي من تطوير أدواتهم. وفي الحقيقة يمثل هذا الجيل مرحلة المخاض العسيرة، ولا توجد أي تطمينات من أن هذا المخاض سيفضي بنا إلى ولادة سليمة في ظل مجتمع يعاني من اضطرابات جسيمة. المجتمع المضطرب لا يرى إلّا ما يرغب، والنخبة السياسية المستنيرة ترى أبعد من ذلك. ونحن مجتمع مضطرب بلا نخبة. وهذا هو الانسداد بعينه! فحتى هذه اللحظة لا تبدو مخاضاتنا حقيقية، بل ربما نفتعل المخاض! أو على أقل تقدير مخاض حقيقي، لكنه، إن بقي بهذه الحالة، وفي ظل هذا التحديات الجسيمة، فسينتج لنا مولودًا مشوهًا، وسيتبرأ منه الجميع في نهاية المطاف.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الأجيال الجديدة: لحظة في وجه الذاكرة!

غصون الطائفية المتفرّعة وأرجوحة الفاسدين