10-يناير-2022

الدولة ما بعد تشرين (فيسبوك)

كشفت التحولات الاجتماعية والسياسية في العراق اليوم، أن صناعة القرار(Descision making) وحتى الرأي (Opinion making) هما أحوج ما يكونان إليه من تدخل علمي أكاديمي قد يبدو ترفًا نقديًا، بيد أن تطبيقات علم النفس الاجتماعي في وصف وتحليل الظواهر السياسية هو ما يشكل لب تخصص علم النفس السياسي، إذ تكمن أهمية علم النفس السياسي بدراسة وتحليل سلوكيات كلا من النخب السياسية (Political elite)  والمجتمع.

افتقار سمة القيادة لدى شخصيات الطبقة السياسية وعدم قدرتهم على صناعة القرار أفضى إلى هشاشة في بنية الدولة ومؤسساتها 

حالة الاحتجاجات ما بعد تشرين كشفت عن اعتلالات بنيوية في ديناميات التفاعل النفسي والاجتماعي، بين أصحاب المصلحة السياسية (Stakeholders) والمجتمع الذي توجهه هذه النخب السياسية الممسكة بالسلطة. ثمة خلل في السلوك السياسي بدا واضحًا وهو آلية صنع القرار والرأي، وجذور هذا الخلل تكمن في نمط شخصية أفراد الطبقة السياسية في نظام ما بعد 2003، فافتقار سمة القيادة وعدم قدرتهم على صناعة القرار أفضى إلى هشاشة في بنية الدولة ومؤسساتها، مما مهد إلى سهولة تدخل الفاعل الإقليمي والدولي وتأثيره المباشر على صناعة القرار وفي حالات الرأي أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: "نواب الاحتجاج" في البرلمان الخامس.. من ساحات الدم إلى السياسة

وسيتمّ توضيح بعض الأسس لتشخيص هذا الخلل البنيوي لضعف أو عجز صناعة القرار لدى الطبقة السياسية التقليدية (أفراد وأحزاب). لم ينجح النظام السياسي بعد عام 2003 في خلق (طبقة وسطى) تتمثّل بدور فاعل للمثقف العضوي، على الرغم من توافر شروط هذا المفهوم الذي وصفه جرامشي عند شريحة واسعة من مثقفي العراق، إلا أنّ الطبقة السياسية تركت جانبًا، وهو ترسيخ قواعدها الجماهيرية لديمومة وتطوير أيديولوجياتها بعد نظام صدام حسين وتمترست بصناعة أتباع موالين (followers) لتحفيز ثقافة التبعية (Hegemonic culture) حتى أصبح بعض من يوصف بـ"المثقف العضوي" منضويًا تحت رداء زعيم أو جماعة حزبية يمارس إعادة إنتاج معاناة المجتمع، ولكنه لا يتجاوز خطوط السلطة ويبقى ضمن مساحة تضمن له وجوده كمثقف عضوي في المجتمع ولكنه متماهيًا مع السلطة، وهو ما يمكن أن نصفه بـ"المثقف العضوي المزيف".

وجود هكذا نوع من المثقف ضرورة ملحة لتغطي ضعف الشخصية السياسية وعدم قدرتها على صناعة القرار والرأي والتعامل مع الأزمات، ونتيجة لذلك؛ برزت ظاهرة مجموعة التفكير (Gruopthink) كبطانة حاضنة للطبقة السياسية العراقية بعد 2003، إذ يعرفها عالم النفس الاجتماعي جانيس (Irving L. Janis) مجموعة التفكير بوصفها ظاهرة نفسية في صناعة الرأي والسياسة، والتي تبرز على شكل مجموعة أفراد يعملون على الإجماع بالرأي داخل تلك المجموعة، ومن ثمّ الإدلاء به للسياسي القائد، إلا أنّ إحدى خصائص هذه المجموعة، هي أنها تصنع الرأي بمعزل عن معتقداتها المعرفية والمهنية، وكما هو معروف تأخذ جماعة التفكير هذه أشكالًا متعددة في جسم الطبقة السياسية (كمجموعات المستشارين، اللجان الاقتصادية والسياسية في الأحزاب والهيئات، وبعض الصحفيين أو الباحثين كخبراء ضمن مراكز تفكير للسياسي ـ صاحب القرار). ويحدد جانيس ملامحًا مختلفة تشير إلى جماعة التفكير المشار إليها وآليات التفاعل بين أفرادها في صناعة الرأي والسياسة، وهو ما نجده يتمثل بأغلب الجماعات التي يركن لها السياسيون في العراق بعد 2003:

  • أولًا: أوهام الإجماع (Illusion of unimity)

إذ يقع أفراد المجموعة في وهم جمعي على أنهم متفقون بالرأي، وغالبًا ما يكون من الصعب لفرد ما، أن يتحدث خارج سياق مغاير للمجموعة، وقد يتضح هذا جليًا في النخب المثقفة المحيطة بأفراد النخبة السياسية التقليدية وأبرز ملامح ذلك الوهم هو الولاء للزعيم السياسي أو صاحب المصلحة السياسية.

  • ثانيًا: المعتقدات غير القابلة للجدل (Unquestionable believes)

تؤدي هذه الخاصية بأفراد مجموعة التفكير إلى تجاهل المشكلات الواقعية ذات الصلة، وتعتقد نتيجة الوهم آنفًا أن هذه المشكلات غير قابلة للجدل ولا ينبغي الاكتراث لتبعاتها مما يؤدي إلى صناعة قرار مزيف أو غير مؤثر.

  • ثالثًا: التبرير (Rationalizing)

تمنع هذه الخاصية الأفراد في مجموعة التفكير من إعادة النظر أو الأخذ بنظر الاعتبار ما يعتقدون به في صناعة وتحضير الرأي، وسبب ذلك جهلهم لعلامات الحذر في حال وجودها.

  • رابعًا: الصورة النمطية (Stereotyping)

هذه الخاصية تجعل الأفراد لديهم شكوك تؤدي بهم إلى إخفاء مخاوفهم أو عدم مشاركتهم لها، ويفضلون الاتساق مع المجموعة عن إبداء معرفتهم خشية التصادم بالمعلومات، وهذا يحدو بهم إلى المكوث بصمت و يفترضون أن المجموعة تعرف الأفضل.

  • خامسًا: حراس العقل (Mind guards)

يتصرف أفراد جماعة التفكير وكأنهم حماة العقل، وأنهم معنيون بإخفاء المعلومات الإشكالية في المجموعة (نتيجة الوهم والولاء للسياسي)  وليس مشاركة المعلومات غير المهمة حسب مقتضيات مصلحة صاحب الرأي أو القرار- أي الرئيس السياسي- فيضطرون إلى السكوت أو يمتنعون عن المشاركة بتلك المعلومات.

  • سادسًا: وهم الحصانة (Illusion of invulnerability)

تؤدي إلى شعور أعضاء جماعة التفكير المحيطة بالزعيم السياسي بأنهم يجب أن يكونوا متفائلين ومنخرطين في أخذ المجازفة عندما لا يتكلم أي أحد برأي مغاير كصوت بديل يؤدي ذلك إلى الاعتقاد بأن المجموعة يجب أن تعي وتقترح الأفضل وفقًا لمزاج صاحب المصلحة السياسية.

  • سابعًا: الضغط المباشر (Direct pressure)

الاتفاق غالبًا على إزاحة الأعضاء الذين يثيرون الأسئلة، وأن أولئك الذين ينتقدون المجموعة هم يبدون وكأنهم عديمو الولاء أو أنهم خونة. تشير الدراسات و البحوث إلى أن هذا النوع من جماعة التفكير الذي يحيط بصناع القرار السياسي يؤثر سلبًا على صناعة الرأي والسياسة، كما أن قمع آراء الأفراد وفقًا لآليات عمل هذه الجماعة يؤدي إلى حل غير كفوء للمشكلات.

من جانب آخر، تساهم ما يسمى بالقوة الخفية (Invisible power) في ظهور جماعة التفكير، وهذا ما مهد للساسة العراقيين بعد 2003 من ظهور بطانة لهم كجماعة التفكير في صنع الرأي والقرار. تشير القوة الخفية إلى طبقة اجتماعية واسعة ربما تكون غير واعية بحقوقها ومظلومياتها الحقيقية، وكذلك عدم قدرتها على الكلام أو التعبير عن ما تعانيه في الواقع، وربما هي ترى أن قوة أخرى مهيمنة فوقهم هو أمر "طبيعي".

إذ يشير ستيفن لوكيس (Steven Lukes) إلى أن أغلب الخبث السياسي يأتي بإستخدام هذه الطبقة الإجتماعية، وذلك لغرض إبقاء صراعات النخبة السياسية غير بارزة بشكلها الحقيقي، حيث يأخذ هذا الاستخدام من قبل الطبقة السياسية بواسطة مجموعة التفكير طريقة خلق الوعي الزائف (Fales Consciousness) ففي حالة القوة الخفية، أيّ الطبقة الاجتماعية الواسعة التي تعاني الحرمان والمظلوميات، تعكف جماعة التفكير على جعل هذه الطبقة غير واعية بحقوقها الأساسية والواقعية، من خلال خلق رأي عام لإيهامهم بأن أولوياتهم تكمن في واقع آخر - في حقيقته يصب بمصلحة صاحب المصلحة السياسية أو زعيم الحزب ـ  وهنا الأمثلة عديدة، كتبرير قتال الإرهاب هو مبرّر لعدم الخوض في المطالبة بالخدمات أو حرية التعبير وحق التظاهر، هو مؤامرة تستهدف هدم القيم والمنظومة الأخلاقية، وحتى حالة الصراع الطائفي وما خلفه من تبعات (كالمخبر السري ووصمة الدعشنة وغيرها) وإيهام الطبقة الخفية بأن ثمة صراع مستديم على مبدأ (نحن ـ هم) أي سنة وشيعة مثلًا.

وهنا تبرز الأهمية بعد أن حفزت حركة الاحتجاجات حالة بزوغ الوعي والتي هي المضاد النوعي لإبقاء القوة الخفية تحت تأثير الوعي الزائف الذي تمارسه مجموعات التفكير المحيطة بالسياسي، سواء أكان رئيس حزب أو صاحب مصلحة سياسية، ومن نافلة القول يجب أن تعي مخرجات حركة الاحتجاجات السياسية تقنيات جديدة في صناعة الرأي والقرار السياسي، وهذا يعتمد على نمط شخصية أفراد الطبقة السياسية الجديدة المنبثقة من تشرين من خلال سبر أغوار القوة الخفية من المظلوميات والحرمانات المتراكمة في طبقة اجتماعية واسعة، وهذا ما سيؤدي إلى تقليل فجوة الوعي الزائف وهو ما سيربك مجموعات التفكير المحيطة بالطبقة السياسية التقليدية الرافضة للتغيير والإصلاح.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

تحديات نواب الاحتجاج: النموذج الأول والمهام الجسام

وفاء لتشرين.. كلمات لا بدّ منها