يندرج مفهوم الوطن والعقار عند عموم العراقيين في حقل دلالي واحد. ودائمًا ما يرادفون تلك المساحة الجغرافية الواسعة لوطنهم الجغرافي بمساحة العقار من حيث المعنى والغاية. ولولا ذاكرة المكان والجذور الثقافية لدى غالبية الناس، وبالخصوص الفئات العمرية ما فوق سن الأربعين، لفزعوا خارج الحدود يبحثون عن مأوى يليق بهم بعد أن أفلسوا من وطن يؤويهم أسوة بباقي البشر.
من يطلّع على حجم الفئات السكانية المحرومة من نعمة العقار فسيصاب بالصدمة في بلد يحظى بثروة هائلة
غير أن الأجيال الجديدة تختلف حكايتها عن هذه الفئات العمرية؛ فقد هربت خارج حدود هذا الوطن (المنفى) الذي حرمهم من معنى الوطن بكلتا دلالتيه؛ إذ لا الوطن الكبير ولا الوطن الصغير(العقار) وفر لهم الملاذ الآمن؛ الوطن بدلالته السياسية تحول إلى منفى، والوطن بدلالته العقارية تحول إلى حلم كبير يراود المحرومين. وهم بين هذا وذاك يتناثرون في بلدان العالم تجثم على قلوبهم ليالي الشتاء الأوروبية الطويلة ويأخذهم الشوق إلى دفء العراق وسمر الليالي البغدادية، لكن اللصوص والأثرياء الجدد كان لهم رأي آخر.
اقرأ/ي أيضًا: شقة في بغداد تساوي "فيلا" تركية.. ما هي أسباب ارتفاع أسعار عقارات العاصمة؟
لا أزعم أن السبب الجوهري في هجرة الكثير من الشباب إلى بلدان العالم هو العقار فحسب. لكن من الطريف أنك ستسمع، حين تلتقي أو تتراسل مع أحد أصدقاءك المهاجرين، هذه العبارة "حصلت على سكن مريح ورخيص"، وسيقص لك حجم الخديعة الكبرى بخصوص أسعار العقارات المرتفعة في بغداد ورخص ثمنها في الدول المجاورة. في السلّم الأول من الحاجات الأساسية يقفز السكن كضرورة قصوى، في حين يُعد السكن في العراق، كملكية صرف، حلمًا يراود الكثير من العوائل العراقية، وبيوت "الحواسم" البائسة خير دليل على ذلك، بل ستبقى شاهدًا على حجم الإنجازات التي قامت بها حكومات الخضراء!
وإذا سمعت العراقيين يرددون هذه العبارة الشهيرة "لا أملك وطنًا"، فبالتأكيد لا يعنون تلك البقعة الجغرافية الممتدة لآلاف الأميال بل على الأغلب يعنون وطنهم الصغير، حيث لم تسعفهم الحظوظ السعيدة ليرثوا من ذويهم عقارًا فخمًا، مثلما يحدث لدى غالبية الأسر البغدادية الثرية، أو لم تشملهم هبات "الأمير" وعطاياه الجزيلة لحاشيته وموظفيه ليمنّ عليهم بملكية متواضعة تضمن لرب الأسرة حياة مستقرة وآمنة لعائلته. إذ لا زالت هذه العقارات ذات المساحات الواسعة شاخصة حتى هذه اللحظة يتوارثها البغداديون جيلًا بعد جيل.
بينما كانت الأجيال الجديدة تردد هذه العبارة باللغة العامية الدارجة "نريد وطن" وأضحت شعارًا مركزيًا لانتفاضة تشرين، كان لسان حال الكثير من الأسر العراقية تردد ذات العبارة لكنها كانت تعني بها "نريد عقارًا" أسوة بباقي البشر. ومن يطلّع على حجم الفئات السكانية المحرومة من نعمة العقار فسيصاب بالصدمة في بلد يحظى بثروة هائلة، بيد أن غالبية الزمر الحاكمة كانت مصرة على استثمار الناس في الموت، ذلك أن الحياة مكلفة جدًا لمن يحتقرها.
والمؤسف في هذا كله، أن أغلب الأسر الفقيرة ذات الأصول الجنوبية هم الفئات الأكثر حرمانًا من سبل العيش الكريم. وهؤلاء اضطروا لنسخ ومحاكات سيرة أجدادهم المؤلمة يوم هربوا من جور الإقطاعي واتخذوا من بيوت الصفيح في العاصمة بغداد ملاذًا وسكنًا لهم، وكانوا سعداء بحجم هذا "الإنجاز"، لولا الهبة التي قدمها عبد الكريم قاسم في مدينة "الثورة" (مدينة الصدر) على شكل مساحات صغيرة تم بناؤها بطريقة كئيبة وبعيدة عن الذوق الجمالي الذي يلاءم البيئة البغدادية. هذه البيوت صغيرة الحجم تعبّر عن الزهد الكبير الذي كانت تتمتع به هذه الأسر الكادحة وعن فرص الحياة شبه المعدومة؛ فبيت في المدينة خير من "صريفة" في أحد مناطق الصرف الصحي.
لم يترك الجنوبيون "الشروكية" لذويهم عقارات فخمة؛ بيت واسع، وحديقة غنّاء، وتصميم جميل مستوحى من العمارة البغدادية الجميلة. كلما تركوه هو عقار بائس لم تتجاوز مساحته الـ 144 مترًا، ثم أضحى فيما بعد، وبالخصوص بعد 2003، محلًا للنزاعات بين الورثة، كما لو أنهم حقًا سيرثون شيئًا! ومن يدخل في مدينة الصدر ويتسكّع في أزقّتها الكئيبة سيدرك حقيقة العذاب البشري. ولا حاجة بنا للإفاضة في عذابات مدينة الصدر فقد خصصنا لها في العام الماضي، على ما أظن، مقالتين على الأقل توصف واقع الحال هناك.
يومًا بعد يوم تتحول بغداد إلى أحياء سكنية خربة بفعل البناء العشوائي وتنامي ظاهرة تقطيع البيوت والتلاعب بمساحاتها، حتى بات سعر المتر الواحد في أغلب الأحياء الراقية، في قاطعي الكرخ والرصافة، يتجاوز الـ3 ملايين دينار عراقي! وهو رقم يتصدّر، كما أزعم، لائحة العقارات الأغلى في المنطقة، ويكفي أن تجري مقارنة بسيطة بين أسعار العقارات في الدول المجاورة حتى تعرف حجم المسرحية الكبيرة التي تجري في بغداد.
عاصمة تتصدر لائحة المدن الأسوء من حيث الخدمات، وهي آخذة بالتريّف بالتدريج، وتعاني من ضغط سكاني هائل، واختناقات مرورية حادة، ولا شيء يوحي فيها حاليًا بموقعها التاريخي والحضاري. مع هذا كله يرتفع حجم العقارات فيها لأرقام فلكية غير معقولة. وقد تكون أغلى حتى من الدول الأوروبية. وكل هذا بفضل السرّاق الذين أشعلوا سوق العقارات لدرجة غير مسبوقة في تاريخ العراق، وما على الفقراء، الذين تزداد رقعتهم يومًا بعد يوم، سوى انتظار أسعار الإيجارات على الأقل ليحظوا بسكن مؤقت وعيونهم في ذات الوقت تنظر إلى ذلك الحلم البعيد: وطن صغير آمن ويشعروا ولو لمرة واحدة في العمر أنهم حقًا مواطنون في هذا الوطن الجغرافي.
اقرأ/ي أيضًا:
"المربع الذهبي".. تسمية ابتدعها الأمريكان وتحولت لعرف بعالم العقارات في بغداد