23-أغسطس-2020

المحاربون لا يمكنهم أن يكونوا محايدين على الإطلاق (Getty)

الذات المحاربة لا تعرف الحياد. لا بد لها أن تكون في هذا الطرف أو ذاك. وإذا تحدثت عن الحقيقة هنا، فالحقيقة هنا باعتبارها أفقًا وإستراتيجية تسمح لها بالانتصار. ميشيل فوكو، يجب الدفاع عن المجتمع.

إن السلطة هي الحرب المستمرة بوسائل أخرى. كلوزفيتز

ألا تبدو الفرضية التالية بمنزلة البداهة: إن الدفاع والتبرير عن هوية ما، ليس بالضرورة دفاعًا عن الحقيقة، بقدر ما هو دفاعًا عن قوة الوجود المتأصل بتأثير تلك الهوية. ومن ثم، معظم النزاعات والمهاترات، وأغلب الحروب التي تورط بها البشر على مر التاريخ لا تخرج عن هذه الفرضية. فوظيفة النقد والتحليل إماطة اللثام عن وجه الحقيقة والتخفيف من حدة الأكاذيب. إن عدم تحليل ظاهرة ما، لا يقل سوءًا عن النتائج السلبية التي تفرزها هذه الظاهرة؛ ذلك أن تقادم الظاهرة من دون تسليط الضوء عليها يحيلها إلى عادة! وهذه الأخيرة ترسخ في الذاكرة وتتحول إلى"حقيقة" للأجيال اللاحقة.

لا نستغرب القتال "الافتراضي" الشرس الذي يقوم به الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، لتخوين المخالف، سواء كان هذا المخالف على شكل "علماني" أو متظاهر

فغلبة العادات على الحقائق أمر واضح لدى معظم البشر. والعادة الأكثر رسوخًا في الصراع البشري هي السلطة. إن السلطة هي احتكار شرعي للقوة بحسب ماكس فيبر، غير أن هذا التعريف ليس كافيًا من منظور ميشيل فوكو. بمعنى أن الفهم السيادي للسلطة لا يمكنه أن يغطي الإكراهات الكثيرة  التي يمارسها المجتمع خارج نطاق الإكراهات السياسية. ضمن هذا المنظور تغدو السلطة ليس تشكيلًا واحدًا، بل ثمّة وظائف متعددة لها على نحو الإجمال؛ سلطة العائلة، القبيلة، الطائفة وغيرها، تشكل جذر الصراع المحتدم في المجتمع العراقي على وجه الخصوص. وفي النهاية يتوّج هذا الصراع نفسه لاعتلاء هرم السلطة السياسية، من خلال الدعم المتواصل من قبل الذوات المتحاربة في المجتمع، والتي تحيل المخالف إلى محض دنس وفجور، ولا تترك فعلًا دونيًا وخسة ودناءة أخلاقية إلَا وألصقتها بخصومها، لأنها ذات محاربة، وهذه الأخيرة حينما تتكلم عن الحق فهي تقصد به حقها، كما يقول فوكو، وإذا تكلمت الحقيقة فلا تعني الحقيقة الكونية، بل حقيقتها هي كذات محاربة. والمحاربون لا يمكنهم أن يكونوا محايدين على الإطلاق، والمشكل الأكبر في التاريخ، أن عملية إنتاج الحقيقة يصنعها الوعي المحارب! وكما هو معلوم لا مكان للتاريخ عمومًا إلا من حيث كونه سردية المنتصر الظافر.

اقرأ/ي أيضًا: الديمقراطية: خرافات وحقائق

يقول فوكو في كتابه (يجب الدفاع عن المجتمع)، حينما يطالب المحارب المنتصر بالقانون فهو بالحقيقة يطالب بقانونه، فسيكون حق العائلة أو العرق أو حق التفوق، ناتجة من قانون الانتصار والاستيلاء العسكري. على سبيل المثال، تحاول أطراف سياسية متنفّذة عرقلة حركة رئيس الوزراء العراقي الذي أوصلته ظروف انتفاضة تشرين للمنصب، لأنها أطراف ترى من نفسها ذوات محاربة ومنتصرة، وبالتالي مهيمنة، ولا يجوز لأحد غيرها صياغة تاريخ العراق الجديد غيرها، بل لا يحق لأحد ما سرد الحقيقة كما هي إلا من خلال سرديتها كذات محاربة ومهيمنة. تحاول هذه الذات فرض أدوات الإكراه وممارسة شتى صنوف الإخضاعات، عن طريق تشريع قانون معين، أو وسائل تخويف تمارسها في المجتمع. وهي بذلك تعلم جيدًا، أن بنية المجتمع مٌنظمة سياسيًا بطريقة تضمن لهم الدفاع عن هيمنتهم في وجه الآخرين والدفاع عن انتصاراتهم وتخليدها، ومن ثم الدفاع المستميت عن حقهم الشرعي في السلطة. وعلينا أن نفهم أن خروج ترشيح رئاسة الوزراء، مثلًا، عن سلطة الذوات المحاربة، هي إيذان بتشكيل لحظة تاريخية عابرة لسردية الذات المحاربة، وهذا الإيذان هو تهديد لسلطة المهمين وتهديد صريح لحقها في الإكراه، وعليها أن تكون على أهبة الاستعداد لأي حركة معارضة تجاهها. وهي متفوقة كميًا على أي قوة سياسية أخرى.

وبما أن السلطة ليست تشكيلًا واحدًا، وبما أنها ترشح من كل مسامات المجتمع، فلدى هذه الذات المحاربة جيش غفير من كتاب التاريخ. كتابة شفوية تتمثل على شكل صراع محتدم في تغييب الآخرين بأشكال تعبيرية مختلفة. لا بد لأي حركة اجتماعية أن تكون حركة فاجرة ومتحللة خلقيًا بنظر هؤلاء، إذ لا يجوز لأحد الخروج عن سردية المنتصر وينفرد بكتابة التاريخ. لا بد أن تكون الإشارات والخطابات والرغبات متشابهة ومتجانسة ومتماثلة، ثم تتم صياغتها في معمل السلطة لتظهر على شكل أفراد، ذلك أن الفرد ليس مقابلًا للسلطة بل فعل من أفعال السلطة كما يخبرنا فوكو، وهو أحد آثارها أو نتائجها. فالذات المحاربة تعمل بكفاءة عز مثيلها لإنتاج مزيد من الأفراد المتماثلين معها كليًا، بل لا يمكن الفصل بين الفرد والسلطة ضمن هذا المنظور.

 لذلك لا نستغرب هذا القتال "الافتراضي" الشرس الذي يقوم به الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، لتخوين وتسقيط وتتفيه المخالف، سواء كان هذا المخالف على شكل "علماني" أو متظاهر، أو أي كان، فالمهم اختلافه معهم في نظرتهم للحقيقة. إنهم أفراد مصنوعين لتبرير خطاب السلطة وتقويتها وإقرار حقها، حتى لو لم يحصل هؤلاء على مقابل من السلطة، فهم، كما أسلفنا، نتاج السلطة وأثر من آثارها. ما الذي يدفع المعدمين للدفاع عن سلطة سلبت منهم كل شيء؟ ألا يبدو لأول وهلة أنهم ذوات مسلوبة الإرادة ولا يمكنها الخروج عن قالبها المحبب وهو الدفاع عن السلطة. غير أنهم "معذورون"؛ فالعادات، كما أسلفنا، تهمين على وعيهم كليًا، وهم خاضعون لعلاقات القوة التي تتحدد وتظهر الحقيقة طبقًا لسرديتها. إن خطاب السلطة سواء كان من الناحية السياسية أو الاجتماعية، يقول فيلسوفنا الفرنسي، يقيم الحقيقة والحق والقانون انطلاقًا من علاقات القوة، فبالتالي نحن خاضعون بواسطة السلطة لإنتاج الحقيقة. إننا نُدان ونٌحاكم، يكمل فيلسوفنا، ونٌصَنَّف ونٌلزم بمهام وبنوع الحياة والموت تبعًا لخطاب الحقيقة الذي يحمل في ذاته آثار السلطة.

طبقًا لهذا التحليل، فنحن ذوات محاربة، ذوات لم تعرف الحياد طوال تاريخها الصراعي، وهي تقول الحقيقة عندما تنتمي لهذا الطرف أو ذاك، بمعنى أنها لا ترى الحقيقة إلا من حيث كونها صورة طبق الأصل للسلطة، والنضال الحقيقي هو تعبيد طريق الحرية الطويل الذي يتقاطع كليًا مع طريق السلطة وإكراهاتها، ذلك إن الحرية هي نفي الإكراه، ومعلوم أن هذه الحقيقة  لا تشمل الدمى المعلقة خيوطها بيد الذات المحاربة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

نادي المتذمرين

ذاكرة الدم والاستبداد