20-فبراير-2023
عن المحتوى الهابط في العراق

الكثير من رواد مواقع التواصل لا يظهرون بهوياتهم الحقيقة في العراق (فيسبوك)

ثمة قناعة بدأت تترسخ تزامنًا مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، وهي أنّ التفاهة والسطحية تهيمن على مجمل الخطاب الذي يتبنّاه عادة روّاد هذه المواقع. بات الطرح الموضوعي ينحدر في زاوية هامشية ضئيلة مقارنةً بتفاهة الطروحات التي تشكّل طيفًا واسعًا من المطبلين لهذا النمط، الذي يغيب فيه التركيز والتأني، وتحضر فيه الهشاشة والضعف والأهواء العنيفة كمحرك أساس لهذا الفضاء الواسع.

هناك تسامح مع الفساد والرشوة وهدر مليارات الدولارات لكن بالمقابل هناك ملاحقات قانونية وشدة حول ما يسمى بـ"نشر المحتوى الهابط"

ثمة رأي عام عالمي قوامه جيوش من المدونين ومشاهير الميديا، رأسماله الأهواء العنيفة والتصورات المزيفة. إنه "واقع فائق" يسجل انتصاراته المستمرة وهو يرفع شعار "موت الواقع" باستمرار، الأمر الذي دفع الكثير من المثقفين التأني في طروحاتهم خوفًا من هذه الجيوش المستبسلة من أجل التفاهة.

الكثير من الدراسات تناولت هذه الظاهرة الآخذة بالاتساع، لكنها لا تحظى بجمهور غفير مثلما تحظى به مواضيع الومضات السريعة لمشاهير الميديا. وهو ليس ذنبًا تتحمله هذه المواقع، لأنها في نهاية المطاف منصّات لتمضية الوقت ومجالات للتواصل الاجتماعي، وإمكانيات هائلة للأوهام والرغبات المكبوتة، ومحفزّات بالغة الخطورة لضخ المشاعر السامة للمغمورين، و"ضحايا" دكتاتورية المجتمع؛ فما يكبته هذا الأخير حفاظًا على قيمه من التلاعب بها، تفرخه مواقع التواصل الاجتماعي وتغدو النزوعات النفسية الجامحة هي العنصر المهمين، ولا عزاء لذوي التوجهات الرصينة، فستجابههم جيوش الميديا وتفترسهم شر افتراس. وهذا ما نشهده في منطقتنا العربية عمومًا وفي العراق بشكل خاص.

وليس جديدًا على الفكر والمفكرين ظهور منافسين شرسين من هذا النمط، إذ لطالما شكا كبار المفكرين والفلاسفة من غربتهم الحزينة وسط الحمقى والمتحذلقين؛ فلا تجد ديانة، سماوية كانت أو أرضية، أو فلاسفة، أو علماء، أو أدباء أو فنانين، إلا وهم يبثون شكواهم بمرارة وشعور بالضيق من هذه الجيوش الشرسة.

 كم عدد جمهور القرّاء الذين اطلعوا على كتب الفلاسفة والعلماء والأدباء؟ بالتأكيد جمهور ضئيل مقارنة بغيرهم. كل ما في الأمر استطاع العالم الافتراضي أن يشكّل فسحة لا محدودة لذوي "المحتوى الهابط"، ومجال واسع لحرية التعبير عن الرأي في بلدان تتصف أنظمتها السياسية بجموح كبير نحو الطغيان، وتكثر فيها لوائح المحرمات لدرجة أن الكثير من رواد هذه المواقع لا يظهرون بهوياتهم الحقيقة ويحيطونها بسرية وغموض.

 

نشهد هذه الأيام ملاحقات قانونية جادة تجاه بعض مشاهير الميديا، الذين تجاوزوا "لوائح المجتمع العراقي"، فأنت منبوذ طالما تشرب الخمر وتعاشر النساء وتنشر بعض المشاهد الهابطة التي تخدش الذوق العام، لكنّك في حلٍ من "الشريعة الاجتماعية المقدسة"، وفي حل من رهافة الذوق العام بخصوص سرقة ثروات البلد، وتقبلّك للرشوة، وأن تهدر مليارات الدولارات في وظيفتك السياسية. أطمئن، سيجابهك المجتمع بنوع من التذمّر وعدم الرضا فقط، لكن حذارَ من نشر المحتوى الهابط فسيعرّضك ذلك للمساءلة القانونية، وسيُحكم عليك بالسجن المشدد لمدة لا تقل عن سنة؛ فالقيم الاجتماعية لا تسمح لك كشارب خمر وتستعيذ منك بوصفك "زير نساء"، لكنها تتسامح معك، نسبيًا، لو كنت سارقًا لأموال الدولة.

من فينا يحتمل هذا الجرح النازف (التفاهة)؟ ومن يتجرأ بالقول إنه يستطيع التحمل دقيقة واحدة لمشاهدة محتوى هابط يثير القرف والاشمئزاز ويتحدى كل ملكاتنا العقلية السليمة؟ نحن "العقلاء" لا نحتمل ذلك بالتأكيد، ونجابهه باستمرار بإجراءات مضادة لا تتعدى نصوصًا "جادة" نعبر فيها عن سخطنا واستيائنا لما يحدث. ونتطلع دومًا لدولة ذات مؤسسات رصينة، تلقي على عاتقها بناء الاقتصاد، وتحسين نوعية الحياة، ونشر الديمقراطية، واحترام الحرية وحقوق الإنسان، وبسط العدالة والمساواة أمام القانون، ليأخذ كل ذي حق حقه: ابتداءً من محاكمة الفاسدين ونهاية بوضع التشريعات الواضحة فيما يتعلّق بالحريات.

وبعيدًا عن تلك الأحلام المفرطة، ففي الوقت الذي يدفع أحدهم ثمنًا باهظًا؛ عقوبة بالسجن المشدد لمدة سنتين بتهمة نشر المحتوى الهابط، يتمتع على الجانب الآخر لصوص "سرقة القرن" بحرية نتيجة تعهد لا نعرف صيغته القانونية، يجري بموجبه إرجاع ما تبقى من أموال الدولة المنهوبة.

اللص "نور زهير" يتعهد بإرجاع ما تبقّى من سرقته التي تجاوزت المليارين وخمسمائة مليون دولار وهو حر طليق. اللص هيثم الجبوري يتعهد بإرجاع ما تبقى من سرقته التي بلغت السبعة عشر مليار دولار وهو حر طليق. مئات الملفات الخطيرة فيما يخص الفساد المالي والإداري مُكَدَّسَة في الرفوف المظلمة. تسريبات خطيرة لكبار السياسيين تمر مرور الكرام، لكن بالمقابل؛ شاب عشريني يحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات لتهجمه على الحشد الشعبي، صاحب محتوى هابط يحكم عليه بالسجن من دون أي تنبيه يجري بموجبه التعهد بعدم التكرار!

يا ترى أي منطق يحكم العراق؟ وأي مادة تحليلية يمكنها أن تفهم ما يجري فيه؟ وأين تذهب بنا نخبنا السياسية، أو أين يذهبون بأنفسهم؟ هذه تساؤلات صعبة، وحده الله، علّام الغيوب، لديه الجواب.