فور إعلان رئيس الوزراء عادل عبد المهدي عزمه تقديم استقالته، حذّرنا من جر المتظاهرين من قبل الأحزاب إلى الانشغال بتسمية الرئيس القادم، وتغييب قضية قانون الانتخابات والمفوضية وغيرها من مطالب الانتفاضة، وحالما بدأت المدة الدستورية بالمشارفة على الانقضاء حتى طُرحت الأسماء المرشحة مسربةً للإعلام وساد الجدل في مواقع التواصل الاجتماعي حول السؤال الفخ: من رئيس الوزراء القادم؟
لقد خرجت التظاهرات بعباراتٍ ورؤى لا تتعلق بالشخوص، بقدر ما تستهدف المبادئ والأهداف بالإصلاحات الجذرية
طرح المحتجون مواصفاتهم وشروطهم الواجب توفرها في مرشح الرئاسة، واستبقوا "كمين" الأحزاب وقطعوا عنها طريق الاستدراج لمعركة الأسماء؛ لكن الكتل السياسية وماكنتها الإعلامية دفعت باتجاه طرح شخصية مرتبطة بالحزب الحاصل على الثقل الأكبر من الكراهية الشعبية، ونقصد محمد شياع السوداني وحزب الدعوة، قبل أن تنفجر بالمرشحين تباعًا.
اقرأ/ي أيضًا: متسلحًا بدعم القوى السياسية.. السوداني في مواجهة المتظاهرين
من الجانب الآخر، تبنى تحالف سائرون من اليوم الأول، فكرة ترشيح رئيس الوزراء من داخل ساحات الاحتجاج، وقدم تنازله، بوصفه الكتلة الحاصلة على المركز الأول في الانتخابات النيابية الأخيرة، لصالح الجماهير، باختيار مرشحهم لخلافة عبد المهدي.
وطالما أن الشغل الشاغل في الأوساط السياسية والشعبية والإعلامية هو مرشح رئاسة الوزراء فمن غير العملي إعطاء الظهر للجدل الحاصل والإغراق في التفاصيل والمطالب الأخرى خاصةً مع عدم اتفاق ساحات الاحتجاج على الشكل النهائي لقانون الانتخابات المختلف عليه برلمانيًا هو الآخر (وإن كان في طريقه للتصويت)، وقانون مفوضية الانتخابات المُقر مؤخرًا. ولا بدّ من بعض الإيضاحات.
تكمن خطورة تبني الساحات لترشيح شخصية معينة في عدة نقاط، أبرزها هي الآلية التي يتم من خلالها الاتفاق على تلك الشخصية بين الساحات بشكل خاص، والشارع العراقي بشكلٍ عام، على اعتبار أن المتظاهرين يُمثلون الشعب في مطالبهم؛ لكن دون اعتبار ذلك التمثيل تفويضًا باختيار الرئيس الذي سيحكم كل المواطنين لمدة معينة، فالمتظاهرون يمثلون تطلعات الشعب، فيما تبقى مهمة اختيار المواطنين لمن يحكمهم هي من شأن الانتخابات، المبكرة في حالتنا الآن.
- ثانيًا: إن اتفاق شريحة من المتظاهرين على فرد أو مجموعة من المرشحين قد يُثير حفيظة البعض الآخر الذي سيشعر بإمكانيته طرح مرشح آخر، ما قد يولد نزاعًا بين ساحات الاحتجاج ستتفرج السلطة عليه بكامل الارتياح.
- ثالثًا: سيكون طرح مرشح من ساحة التحرير عامل استفزاز للمحافظات الوسطى والجنوبية التي ستشعر بالتهميش والإقصاء من قبل العاصمة، وهو ما سيخلق صراعًا إلكترونيًا وإعلاميًا، ما قد يؤدي إلى حالة من الإحباط والفتور في روح الانتفاضة.
- رابعًا: سيفتح طرح المرشحين الباب على مصراعيه لدخول الأحزاب على الخط، وإفساح المجال للانتهازيين والوصوليين لاستغلال الفرصة، ويؤدي ذلك إلى شراء ذمم بعض ضعاف النفوس، وهو الأمر الذي سيخلق مشاكل حقيقية داخل ساحات الاحتجاج، ليس أولها تسقيط الناشطين، ولا آخرها الاحتراب بين المحتجين.
- خامسًا: إن تقديم مرشح من الساحات بعد تبني تحالف سائرون لفكرة الرئيس المُختار من الشعب، سيُفهم من الكتل السياسية على أن الأسم المطروح هو مرشح سائرون، وبالتالي لا يقبل الحزب أن يتنازل لحزب مثله ويُعطيه صلاحية تشكيل الحكومة على خلفية التظاهرات الشعبية، كما أن الماكنة الإعلامية الحزبية بإمكانها أن تستغل هذا الصراع لبث فكرة أن "الصدريين يفرضون مرشحيهم على العملية السياسية مستغلين الاحتجاجات".
- سادسًا: لقد خرجت التظاهرات بعباراتٍ ورؤى لا تتعلق بالشخوص، بقدر ما تستهدف المبادئ والأهداف بالإصلاحات الجذرية، وما يُثبت ذلك هو أن استقالة عبد المهدي لم تكن مطلبًا جماهيريًا مُلحًا إلا بعد شعور المتظاهرين بعدم قدرة هذا الرئيس على إدارة البلاد، ونزول "القناص" إلى مسرح التظاهرات، وانفلات زمام الأمور من يده، فضلًا عن استفزازاته وتصريحاته السَمِجة، وخطاباته التي تصيب المرء بالغثيان، وقد كان تجاهل الساحات لخبر استقالته والإبقاء على الاعتصام دليلًا على عزم المتظاهرين تكملة المشوار الذي خرجوا من أجله وعدم الاكتفاء باستقالة رئيس الوزراء الموصوف بالدُمية من قبلهم.
- سابعًا: إن اختيار مرشح رئاسة الوزراء من الساحات، إن نجح ـ مع الصعوبة البالغة لذلك ـ، بتضحيات قد تكون جسيمة، ففيه مخاطر أن تنتقم الكتل السياسية من مرشح الانتفاضة شر انتقام، عبر أدواتها في السلطة التشريعية والرقابية، والدولة العميقة التي تسيطر عليها الأحزاب، وسيؤدي ذلك إلى خيبة أمل شعبية كبيرة من الانتفاضة، ونفور اجتماعي من أي تظاهرات قادمة.
الحل الوسط هو أن تُمرر الأحزاب الرئيس الجديد بمواصفات المتظاهرين دون فرضهم، ذلك سيمنع تحميل المتظاهرين مسؤولية إخفاقه، وهو ما سيمنع بدورهِ تعمّد الأحزاب بوضع العصا في عجلته
قطع المتظاهرون الطريق على كل من قد يستغل بعض الثغرات في الساحات لتمرير مرشح باسمهم، وثبّتوا ثقافةً هيمنت على الساحات ومواقع التواصل والقنوات التلفزيونية لم تدع المجال لاختراقهم بأي شكلٍ من الأشكال. وبتلك الطريقة، احترق أول اسم يُطرح من قبل الأروقة السياسية كممثل عن المتظاهرين، وعبر وكالة الأنباء العراقية الرسمية. ذلك نصرٌ في التكتيك الاحتجاجي لا غبار عليه.
اقرأ/ي أيضًا: الاصطفاف في مواجهة المحتجين.. أحلام معلّقة على بديل عبد المهدي
بالمقابل، عادت القوى السياسية لجدل "الكتلة الأكبر"، وأرسل رئيس الجمهورية سؤالًا لمجلس النواب عن الكتلة النيابية الأكثر عددًا لغرض تكليفها بترشيح رئيس الوزراء، ثم رد البرلمان الكرة إلى ملعب الجمهورية بتذكيره أن تكليف عبد المهدي يَفترض أن يعلم الرئيس من هي الكتلة الكبرى. وفي حقيقة الأمر، أن لا كتلةً كبرى على أرض الواقع، بل توافقات اعتقد السياسيون أنها سُتنجح حكومة "المستقل" عبد المهدي، لكن الفشل استمر، والفساد أزكم الأنوف، ليُسقِط المتظاهرون مرشح التسوية، ومعه التوافق.
ولو فُتح الباب لاختيار مرشح رئاسة الوزراء من المتظاهرين لانسحب الصراع على مسألة الكتلة الكبرى بتعقيداتها، والخروق الدستورية التي حدثت في تنصيب عبد المهدي، إلى ساحات الاحتجاج، وتبنت كل كتلة تدعي حقها باختيار رئيس الوزراء طرفًا من أطراف الساحات.
إن اللاقيادة هي الأمان والخوف في ذات الوقت. لقد جاءت بنتائجها عبر شيوع رفض المفاوضات مع الحكومة، وكانت عامل أمان لبقاء التظاهرات دون ما قد يُكسر ظهرها من خلال قياداتها؛ ثم تسببت بسحب الشرعية من أي مدّعٍ يطرح مرشحًا للرئاسة، لكنها عامل خوف في عدم تحديد البوصلة وصعوبة مجاراة الإعلام الحزبي، وبذلك فإن عدم وجود القيادة يشترط وعيًا مستيقظًا دائمًا، وهو شرط غير ثابت لناحية ديمومته، وغير مضمون.
ما هو الممكن؟
الحل الوسط الذي افترضناه هو أن تُمرر الأحزاب الرئيس الجديد بمواصفات المتظاهرين دون فرضهم، ذلك سيمنع تحميل المتظاهرين مسؤولية إخفاقه، وهو ما سيمنع بدورهِ تعمّد الأحزاب بوضع العصا في عجلته، كما سيُعطيهم هذا الخيار الثقة بأن الرئيس الجديد (المطابق للمواصفات) ليس مرشح المتظاهرين، وبالتالي لا خوف من انقلابٍ قد يُنفّذه عليهم، واللعب هنا على الأمور الواجب إلزام الرئيس بها من قبل المتظاهرين، وعلى خطواتهم المُقبلة، بعد تكليف المرشح باختيار الكابينة الوزارية.
ثبّت المتظاهرون حالة ديمقراطية رائعة: "الرفض لا الفرض"، وهي حالة واعية تُتيح للجماهير الرفض والقبول للوقائع السياسية، وهي فرضٌ لإرادة الجماهير أكبر تأثيرًا ونجاعةً من "فرض المرشحين"، وذلك باعتقادنا يَصب في مصلحة العملية الديمقراطية.
ثبّت المتظاهرون حالة ديمقراطية رائعة: "الرفض لا الفرض"، وهي حالة واعية تُتيح للجماهير الرفض والقبول للوقائع السياسية، وهي فرضٌ لإرادة الجماهير أكبر تأثيرًا ونجاعةً من "فرض المرشحين"
إن الرئيس الجديد هو نتاج الانتفاضة، وسيكون حاكمًا لشعب العراق، وليس المتظاهرين فحسب، بالتالي فإنهم ملزمٌ أمام الشعب عمومًا، والأحزاب، والمتظاهرين، على تكملة مشوار الإصلاح، فيما سيكون الرئيس ما بعد القادم هو نتاج العملية الانتخابية (المبكرة)، وبإرادة شعبية، إن صدقوا بتنظيمها، وأقدم العراقيون على المشاركة والتصويت. بالتالي، لا يُمكن لسيناريو "الاختيار من الساحة" أن يتكرر مع هذا القادم أو من بعده، عن طريق جماهير الأحزاب، أو الجماهير المستقلة، فالتظاهرات أداة ضغط ورفض للسياسات، وفرض للشروط، لا للمسميات.
اقرأ/ي أيضًا:
اختيار رئيس الوزراء.. تسويف المطالب بـ"ذريعة" المدة الدستورية