مرّت قبل فترة قصيرة، ذكرى سقوط نظام صدام حسين في بغداد، ونستطيع أن نستذكر في هذه الأثناء واحدة من مخلّفات سنوات حكمه الطويلة، وهي انتشار الفوضى والأسلحة، فضلًا عن استمرار الحروب كسياق فوضوي واحد من الاستبداد إلى نظام المحاصصة.
تعتبر عملية شراء قطعة سلاح في المدن عملية سهلة جدًا حيث لا رقابة ولا حدود ولا قيود
عميلة سهلة جدًا، عملية شراء قطعة سلاح في العراق، فلا رقابة ولا حدود ولا قيود. هناك أسواق للبيع - كما في مدينة الصدر مثلاً - وتجار معروفون، سيما في المناطق الفقيرة والنائية في محافظات الوسط والجنوب والعاصمة بغداد أيضًا مع توافد الناس عليهم بشكل طبيعي.
اقرأ/ي أيضًا: غابة السلاح في العراق.. العنف الذي لا تحتكره الدولة!
يصاحب هذه الظاهرة الخطيرة انتشار هائل للمجاميع المسلحة، التي لم نعد نعرفها أصلًا، لأنهم في الغالب مجهولون وكثيرون، والدولة تضم جزءًا منهم. إنها مفارقة غريبة جدًا في دول العالم، وفي ظل هذه الأيام العصيبة من تاريخ العراق بعد ظروفه المريرة، وما بعد هزيمة "داعش" نسأل سؤالًا مفاده: ما الذي ينتظر أطفال العراق؟.
الطفل في العراق يعاني من ضعف التعليم وسوء الرعاية الصحية وقلّة الخدمات، وفوق ذلك تنتشر الأسلحة في محيطته وبيئته، فهو يلعب مع أقرانه بقطعة سلاح بلاستيكية، تأثرًا أو انعكاسًا عن جو السلاح الذي يعيشه ويراه، وبالطبع، أن محافل السلاح والعسكرة هو جوٌ "صدّامي" بامتياز كجزء من ملامح أي نظام استبدادي. لكننا إلى الآن لا نعرف كيف سمحت الحكومة الجديدة بدخول كل هذه الأسلحة البلاستيكية كلعب أطفال إلى العراق؟ وهذا يعني أنّ هناك تواطؤٌ واضح أو غياب كامل للسيطرة النوعية، وانعدام الرؤية في آثار هذه الأسلحة المنتشرة على سلوك الأطفال مستقبلًا.
المجتمع العراقي بأشكاله وأصنافه كافة - تقريبًا - يعلم أن انتشارَ السلاح أمرٌ طبيعي، ورؤيةَ الأسلحة المتوسطة بل حتى الثقيلة منها في المدن أمرٌ معتاد، فمن أين بدأت هذه الثقافة لتنمو وتصل إلى ما هي عليه الآن؟.
إن بداية هذا الأمر كان من حكم صدام حسين، الذي بدأ بعسكرة المجتمع العراقي وتحويله إلى جيش شعبي ورسمي وجيش احتياط، وأدخله في متاهات العنف والصراعات العسكرية العبثية، وفي دوّامة التجييش والدورات العسكرية والكفاح المسلّح أصبح الصبيّ والشاب والمسن والمرأة والطفل كلهم يعرفون كيفية استعمال السلاح وتفكيكه بل حتى كيفية القتال.
أتذكر أن أبي جمعنا ذات يوم في باحة المنزل وبدأ يعلّمنا كيفية تفكيك قطعة السلاح، إباّن انتشار هذه الظاهرة قبل سقوط صدام وخاصةً في آخر سنوات حكمه عندما كنا نريد أن نتعرّض لهجوم ضخم جدًا من أمريكا إبّان انتشار الأنباء عن الحرب وبداية الاحتلال. فهو الذي نشر ثقافة العنف والسلاح بين العراقيين، مدعياً أو موحياً لهم أن حل أي مشكلة يكمن في استخدام القوة كما ورد في تعليق لصحيفة ألمانية.
رؤية الأسلحة المتوسطة والخفيفة في المدن أمر معتاد جدًا.. إنها ثقافة متجذرة من نظام صدام حسين إلى النظام الحالي
في مدننا كنا نسمع صوت الرصاص أكثر من أي صوتٍ آخر، وربما كنا نجلس مع القتلة والمجرمين في المقاهي دون أن نعلم ذلك، فقد انتشرت الأسلحة بشكلٍ فظيع ومثيرٍ للاشمئزاز، فهي قبيحة المنظر وتصيبك بألم قوي خاصةً عندما تفكر أنها ستقتل إنسانًا بعد قليل.
اقرأ/ي أيضًا: صدام حسين.. الدكتاتور الذي يأبى الموت
تنتشر الأسلحة في الأسواق الشعبية دون إرادة جدية للقضاء على هذه المناظر التي تضرب الدولة في عمق سيادتها الداخلية، إضافة إلى أن أوروبا وأمريكا ومعها بعض الدول صنعوا تجارة مربحة جدًا من تدفق الأسحلة، وهناك سوق يطلب بلا توقف مثل مكب نفايات! وموجة العنف في تصاعد مرعب، فما هو مستقبل أطفال العراق وشبابه؟
بعد هزيمة "داعش" في العراق، هناك أمل ضعيف يلوح بالأفق، وهو توجه الناس نحو السلم والهدوء يلاحظه المرء لدى العراقيين، فلقد تعبوا من الحروب والاقتتال، حتى الأطفال لم يشتروا الأسلحة البلاستيكية بكثرة مثلما كانوا يتهافتون عليها، لكنهم بحاجة إلى دولة لا تعتاش على الأزمات وانتشار السلاح، إنما تمضي في صناعة السلم والبناء، ونستطيع أن نتفاءل أخيرًا، إذا سارت الأمور مثلما يوحى بأنها ستسير، ولكن إلى الآن هذا مجرد كلام نتمنى أن يتحقق حيث لا نجاح دون برامج تتبناها مؤسسات مسؤولة ولديها شعور بالأمراض الاجتماعية. وإذا لم يتحقّق هذا العمل على تقويض السلاح فسيبقى الوضع سيء جدًا ومأساوي للأجيال القادمة.
مشكلة العشائر!
نحن لدينا خليط مجتمعي غريب، حتى علي الوردي نفسه وجد صعوبة في تفسيره، فهناك في جنوب العراق ومنذ عقود طويلة تنتشر عشائر كبيرة جدًا بأسلحتها ورجالها. وصلوا من القوة والنفوذ إلى الدرجة التي يتقاتلون فيها لأكثر من عشرة أيام في استمرار مخيف ويثير الرعب في المدن حتى للمؤسسات الأمنية الرسمية، وفي الجهة المقابلة أيضًا تنتشر عشائر المنطقة الغربية، وهي لا تختلف عن مثيلاتها في الجنوب، إذ تمتلك السلاح وتستطيع أن تهدّد به ما تشاء، الدولة والمجتمع والمحافظة.
لم تستطع الحكومات العراقية المتعاقبة منذ ما قبل عشرينيات القرن الماضي من إيجاد حل جيد لهذه المشكلة، فهذه العشائر تستخدم سلاحها للتعبير عن الاحتفال في الأعياد وحفلات الزفاف، وأيضًا للاقتتال فيما بينها في حال نشوب خلاف معين. وهي تصل في مراحل معينة للتفاوض مع الدولة فيما يخص سلاحها ونفوذها ما يجعل وجود هذه المظاهر نتيجة طبيعية.
وفي عودة بسيطة إلى تاريخ العراق إبان الحكم البعثي، نلاحظ مشاركة العشائر الجنوبية بسلاحها في انتفاضة سنة 1991 ضد صدام، الأمر الذي دفع صدام أن يقول حينها بأنه "سيعدم نصف "عشيرة" الشخص المشارك في الانتفاضة لأن عشيرته هي من قامت بتربيته بشكل خاطئ، لذلك حمل سلاحه ضدي"! وقد أستخدم حصرًا كلمة "عشيرة" وهو جزء من سياق الاعتراف بسلاح العشائر دون أن تحل الدولة ومؤسساتها الأمر في إطار يكون للمصلحة العامّة لا لبناء السلطة.
نلاحظ جوانب مختلفة من مشكلة انتشار السلاح في العراق منها حكومي ومنها مجتمعي ومنها فردي دون إرادة جدية في إنهاء هذه المشكلة والقضاء عليها
إننا نلاحظ جوانب مختلفة من مشكلة انتشار السلاح في العراق، منها حكومي ومنها مجتمعي، ومنها نزعات فردية، مثل استغلال العصابات والمجاميع الفاشلة في المجتمع لهذه المشكلة والاستفادة منها. ونأمل بحل عاجل لهذه المشكلة الخطيرة والمتفاقمة في محافظات العراق التي لا يستغرب المواطن فيها من رؤية الصواريخ وهي تسير بجنبه ربما ذاهبة لقضاء معركة عشائرية.
اقرأ/ي أيضًا:
"الدكة العشائرية" في العراق.. ضريبة تسليح المواطنين لقتال داعش