09-أبريل-2019

حل الجيش كان بداية لتفكيك الدولة ومؤسساتها في العراق (تويتر)

في صبيحة التاسع من نيسان/أبريل كان التغول الذي مارسته السلطة على حساب الدولة العراقية في أعلى تجلياته، إلى الحد الذي أحال الدولة إلى مجرد شبح تلاشى بتلاشي نظام صدام حسين، ليصحو المجتمع وهو عاري تمامًا أمام محتل يسعى لإعادة بناء الدولة على المقاس الأمريكي مسترشدًا بالمنظور الخلدوني للدولة القائم على العصبيات المنتجة لدول الطوائف والعوائل، عملية بناء استهلها الأمريكان بهدم المؤسسة العسكرية كآخر فعل تراكمي تبقّى من دولة تآكلت بفعل سياسات الاستبداد والحروب.

بدا التغول الذي مارسته السلطة على حساب الدولة العراقية في أعلى تجلياته إلى الحد الذي أحالها إلى شبح تلاشى بزوال نظام صدام حسين لكن مؤسسات أخرى حلتها القوات الأمريكية عمدًا

قد يبرر الأمريكيون أو من جاءت به دباباتهم، حل الجيش العراقي انطلاقًا من مخاوف حول طموحات سياسية قد تظهر لدى قادة الجيش من شأنها أن تشكل خطرًا على النظام السياسي الجديد. تبرير غير قادر على الصمود أمام النقد، إذا ما راجعنا المسارات والتحوّلات التي مرت بها المؤسسة العسكرية على مدى أربعة عقود مضت، فالجيش رغم إطاحته بثلاثة من حكام العراق، إلا أنه لم يكن إلا أداةً في ذلك، بمعنى أنه لم يكن صاحب مشروع سياسي على نحو النموذج المصري الذي يتعدى فيه الجيش وظيفته إلى مرحلة اعتقاد جنرالاته أنهم بـ"ذواتهم" علّة استمرار النظام الجمهوري، بل لا وجود للجمهورية من دون وجود أحد الجنرالات على سدة الحكم. هذه النزعة لم تكن متجذرة في مخيلة المؤسسة العسكرية العراقية، والتمييز هنا ضروري جدًا لمعرفة مدى مقاومة الجيش لعملية تحييده بعد استيلاء البعثيين على السلطة عام 1968 كمرحلة أولى تمهد لإخضاعه وتطويعه لسلطة الحاكم حذرًا من تكرارٍ سيناريو عبد السلام عارف الذي انتهى بهم بين السجون والمنافي.  

اقرأ/ي أيضًا: غزو العراق.. تفجير العصبيات بلغم أمريكي!

إن اتساع قاعدة الجيش وصنوفه استجابة لتصاعد الصراع العربي الإسرائيلي مثَّل عاملًا مساعدًا آخر في تحييد الجيش، فاتساع القاعدة مع ضمان ولاءات قادته، يُعرقل نسبيًا الحركات الانقلابية إلى حد بعيد. مع هذا، اُتِبعتْ عدة آليات أخرى لذات الغرض من قبيل اخضاع مفاصل الجيش لمجسات الأجهزة الاستخباراتية لإحكام القبضة على الشاردة والواردة، فضلًا عن استحداث وحدات التوجيه السياسي المرتبط بالهرم القيادي للحزب الحاكم كوحدات قياس وتوجيه للمزاج الداخلي للجيش ليتماهى مع الرؤية البعثية، إضافة لتغييرات جوهرية شهدها هيكل المؤسسة العسكرية عبّرت عن بقايا توجس اتجاه الجيش، فبناء تشكيلات عسكرية، كالحرس الجمهوري وجهاز الأمن الخاص وفدائيو صدام كجيوش موازية مسندة القيادة لمجموعة ضباط يرتبطون مع النظام بعلاقات مصلحية تحولت في كثير من الحالات لعلاقات وشائجية نَسبيّة، وهذا من شأنه تطويع الجيش تمامًا للسلطة كنتيجة لتأدية التشكيلات المستحدثة لوظيفتي تهميش الجيش وحماية النظام لضمان استحالة أي تحرك مفترض.  

إذًا، نحن أمام  جيش خاضع لسلطة جعلته في نمطية على فكرة أن الجيش لا شأن له في السياسة بمعناها الضيق، أي لا شأن له في مؤسسة الحكم. فكيف لمؤسسة منمطة لعقود على هذه الفكرة أن يتبلور فيها مشروع سياسي إلى الحد الذي صوَّره الأمريكيين كأنه خطر وجودي على النظام السياسي الجديد؟، وإذا تنزلنا جدلًا مُسلِّمين بخطورة كبار قادة الجيش بوصفهم أركانًا للنظام، فما ضر الأمريكان لو حوكم كبار القادة وأحيل آخرون إلى التقاعد والحفاظ على باقي هيكلية المؤسسة؟.

أضف إلى ذلك، أن المؤسسة العسكرية لو تمت تصفيتها من بقايا حزب البعث لما كانت لتستطيع أن تؤدي دورًا آخر غير وظيفتها في حفظ البلاد من الأخطار الخارجية، وهنا تبدو الأسئلة أكثر الحاحًا، لماذا غابت فجأة عن قادة أركانهم حقيقة عجز جيشهم عن مسك ملف الأمن الداخلي وضبط الحدود؟ اين اختفت براغماتية الأمريكان؟ أين واقعيتهم؟.

إنها أسئلة تُسخِّف كل إجابة تحمل حسن ظن بالأمريكيين إذا ما نظرنا لإدراك الإدارة الأمريكية العالي لجدية مخططات النظام السوري والإيراني في إبقاء الداخل العراقي أكثر سخونة لتشتيت الجهد الأمريكي نحو الداخل العراقي وإبعاده عنهم كدول اعتبرها بوش أركانًا لـ"محور الشر"، إضافة لانتفاء مصلحة النظامين بعراق قوي وبجيش وطني قادر.  

إن عقلية تدير مصالح دولة عظمى كالولايات المتحدة ليس من الهيّن افتراض أنها وقعت بخطأ ساذج كقرار حل الجيش  - كما هو الاعتقاد السائد - نتيجة سوء تقدير لمعطيات الموقف الآني للميدان أو سوء تقدير في رسم سياستها تجاه عراق ما بعد صدام والمنطقة بشكل عام. في الحقيقة  لم يكن الأمر كذلك من وجهة نظر الإدارة الأمريكية، ولا يبدو أنه فعل مقصود لغرض حماية العملية الديمقراطية من طموحات العسكر، بل العكس، كان مقصودًا لإنتاج ما هو أكثر ضررًا من ضرر طموحات العسكر على الديمقراطية الفتية، فالجيش بوصفه أحد أهم مكونات الهوية الوطنية الجامعة للأمة لا بد أن يُحل كخط شروع في عملية تفكيك النسيج الاجتماعي لإرجاعه لمكوناته الأولية كهويات فرعية تفتقد لأدنى الروابط الجامعة. طبعًا ليس بمقدور أحد ادعاء عدم وجود الهويات الفرعية، فهي موجودة ومستعدة للظهور أيضًا بفعل تحفيز النظام لها وتوظيف مخرجات صراعاتها  كمصدر من مصادر شرعيته الآخذة بالتضاؤل بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 وانتفاضة الشيعة في الجنوب والكرد في الشمال، لكنها،  أي الهويات، بقيت دون تمظهر علني بفعل سطوة أجهزة النظام الأمنية.

بعد حل الجيش العراقي من قبل بريمر ككيان موحد تقف خلفه الأمة جيء بطبقة سياسية تتعاطى كل فئة منها مع الطائفية كمحدد لمواقفها اتجاه الفئات الأخرى 

ليس هناك أرضية مُهيأة لاحتضان خلطة للفوضى كتلك التي خلفها نظام صدام حسين، خلطة جمع فيها بريمر كل عوامل إنتاج التشظي فبعد حله للجيش العراقي، ككيان موحد تقف خلفه الأمة، جيء بطبقة سياسية تتعاطى كل فئة منها مع الطائفية كمحدد لمواقفها اتجاه الفئات الأخرى من جهة، وكمبدأ حكم مجمع عليه مسبقًا لإدارة البلاد من جهة ثانية. ثم أن هذه القوى السياسية قضمت طُعمًا آخر من العبقري بريمر، بقبولها بكل سذاجة استلام سلطة هي ذاتها تحت سلطة احتلال، وفوق ذلك أنها لم تحمل مشروعًا سياسيًا بتصور مفصل لشكل النظام السياسي قبالة المشروع الأمريكي، حيث جاءت بترسبات عقلية فترة المعارضة أيام ما كانت تُقدم نفسها طائفيًا للعالم، لتساير المشروع الأمريكي الساعي لـ"لبننة العراق"، وجعل النموذج اللبناني قاعدة للحكم في دول المشرق العربي بعد ما كان يمثل الاستثناء، لتعطي بذلك للهويات الفرعية بُعدًا سياسيًا خطرًا يحولها من هويات ثقافية إلى أيديولوجيات فاشية ترى كل منها في الآخر تهديدًا وجوديًا يجب إزالته.

صحيح أن الطائفية السياسية غير مكتوبة في "الدستور" عراقيًا، إلا أن الطابع الطائفي الذي اتخذته فترة ما قبل كتابة الدستور ترسخ بما يكفي ليكون أحد مخرجاته دستور مرقع ينطبق عليه مثل العراقيين الدارج "من كل قُطر أغنية"، دستور خُلقت تحت ظلاله أعراف تشرعن رغبات الكتل السياسية بمطِّ مواده على مقاساتها، حيث تؤول حكم الأغلبية ليعني حكم الشيعة كونهم غالبية السكان، وصار التوازن في توزيع المناصب يدل على برلمان يرأسه سنيًا، أما الفقرة التي نصت على أن "العراق دولة ثنائية القومية " أصبحت عروة الكرد الوثقى لينتزعوا بها رئاسة الجمهورية كحق قومي.

كان هذا قبل ستة عشر عامًا، أما اليوم، فبفضل من الله، يمكننا الادعاء أن هذا النظام قد غادر الطائفية، فالقوى السياسية اليوم لا تتقاسم الكعكة طائفيًا كما السابق، بل طورت النظام لينسجم مع ما هو أتعس من الطائفية. صارت الغنائم توزع على العوائل، فهذا مرشح الكرابلة وذاك مرشح ال النجيفي، والمنصب الفلاني من حصة أصهار المالكي، وبنك العراق المركزي إرث ورثه آل العلاق عن آبائهم، وهكذا ننتقل من محاصصة إلى أخرى.

إن أبشع نتائج خلطة بريمر التي كان قرار حل الجيش أبرز تجلياتها، لم تكن نظامًا يخلق الأزمات ويعيد إنتاجها فحسب، بل بكون هذا النظام بالنظر للأسس التي يقوم عليها، تتجلى فيه يومًا بعد آخر حقيقة أنه عصي على الإصلاح، بل يغدو الإصلاح عملية شبه عبثية، إذا ما عرّفناه كفعل مقوم لانحرافٍ ما وإعادته لمساره الذي انطلق منه، وإن نجحت المحاولات في بعض المراحل فهي لا تعدو كونها معالجة لبعض السلبيات الناتجة عن أساسات منحرفة، أصلًا، لا تنفك عن إعادة إنتاج الأزمات والمشاكل.

خلطة بريمر التي كان حل الجيش أبشع تجلياتها لم تكن نظامًا يخلق الأزمات ويعيد إنتاجها فحسب، بل خلقت نظامًا يبدو في أحيان كثيرة عصي على الإصلاح

بديهية كهذه تجعلنا أمام ضرورة طرح السؤال عن جدوى الاستمرار بطرح الإصلاح كمسار مثالي مؤدٍ لنظام سياسي يصلح لإدارة بلد مؤهل لأخذ دور مهم في محيطه كالعراق.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

16 عامًا على "سقوط بغداد".. الخراب أيقونة للماضي والمستقبل

غزو العراق.. تفتيت الهوية وإفقار الشعب في رحلة الكذب الأمريكي