23-فبراير-2022

لا تحمل الثورة دلالات إيجابية بالنسبة لفرمان (فيسبوك)

المخاض في زمن الجمهورية

من الممكن بشكل مؤكد اعتبار رواية المخاض كحكاية استمرارية لرواية خمسة أصوات، فالظروف الاجتماعية لبطل خمسة أصوات "سعيد" ومكان سكنه ونفيه، مشابهة جدًا لظروف بطل المخاض "كريم" ومكان سكنه، وهم متساوون حتى بعدد أفراد العائلة، والدان وولدين. وأيضًا فإنّ الأخ الأصغر في الروايتين اسمه "عدنان".

إحالات فرمان في إطلاق الأسماء على الأماكن تؤكد فكرة عدم إيمانه بآليات الثورات العراقية وعدم اقتناعه بها

يعود كريم بطل الرواية من المنفى باحثًا عن أهله الذين كان يراسلهم من دون أن يردّوا عليه ولو برسالة واحدة. فلا رسائل تأتيه من العائلة ـ الوطن. وحتى يستعيد تركيزه من صدمة عدم وجود أهله في محلتهم، يستعين فرمان بالخمرة ليجعل بطله كريم قادرًا استعادة تركيزه "طلبت زجاجة بيرة ثانية تعيد الصفاء إلى نفسي الهشة، الآن أستطيع أن أفكر بجدّية في مصير أهلي، مع الخمرة يصفو الدماغ"، ص 16.

اقرأ/ي أيضًا: قصة "سرد الدولة" في أدب غائب طعمة فرمان (1ـ5)

مع السائق نوري، يبحث كريم عن بيته وأهله، وعن قصة انتقالهم من عقد الطاق. يُفكّر أن البيوت لم تُهدم على أصحابها، فيستنتج أنهم لا بدّ أن يكونوا في زقاق آخر، يقول: "قرأت في بيروت أن للعراق في كل يوم ثورة فلعل إحدى هذه الثورات قذفت بأهلي إلى شارع أعرض وأقل قذارة من الأزقة التي تربيت فيها لكن كيف أجد هذا الشارع الملعون" ص 17. وربما تكون هذه هي أوّل مرة يذكر فرمان مفردة ثورة في رواياته، لكن جملة "لعل إحدى هذه الثورات قذفت بأهلي" و"الشارع الملعون" توحي بأن المؤلّف لا يميل لهذا النوع من الثورات أو أنّه بشكل ما لا يؤيده.

ومن الممكن أن تكون كلمة "ثورة" في النص السابق تدل على صفة إيجابية، فخلال زمن الرواية ، بعد عامين من سقوط النظام الملكي في 1958 - كانت هذه الكلمة تتردد في الخطابات والبيانات الرسمية والصحف، فهناك ثورة على الإقطاع، ثورة على الفساد، ثورة على الطغيان.. الخ، إلا أنّ إحالات فرمان في إطلاق الأسماء على الأماكن، تؤكد فكرة عدم إيمانه بآليات الثورات العراقية وعدم اقتناعه بها ـ برغم تعاطفه - وأنها لا تحمل دلالات إيجابية، لذا نجده يُسكن كريم في أول ليلة يعود فيها لبلده في "فندق عفن" يُطلق عليه اسم "فندق الثورة"، ثم يخرج من الفندق حتى يستكشف بغداد الجديدة التي تغيرت عليه، فيصدمنا بالجملة التالية "ضعت في ساحة التحرير، ودار رأسي عند نصب الثورة، الشبيه بشعار مرفوع في مظاهرة يقودها الباعة والمتسولون"، ص 17. 

بحسب اعتقادي لا توجد شخصية في الأدب العراقي أطلقت هذا الوصف الساخر على "نصب الحرية" سوى كريم بطل المخاض. إنها سخرية مطعّمة بالألم من النصب الذي يُمثّل "مسيرة الثورة" ومن الفوضى التي تحيط بها، ومن كل شيء في عراق ما بعد الملكية، فما هو شكل الشعارات التي يرفعها باعة ومتسولون غير عشوائية المطالب!

في حوار آخر من الرواية، بين كريم والسائق نوري يكتب فرمان "جمهورية؟ قلت لك الجمهورية اسم قطعة معلقة، غدا الموجودون بالجمهورية ينقلبون وتنقلب الجمهورية وياهم، يعني نحن اليوم مثل البارحة". ثم يسرد قصة شخص فتح مطعمًا وسماه مطعم النهر فاشتكى صاحب المطعم الأصلي من التسمية وحدث صراع بين الرجلين لكن النتيجة كانت "كلاهما مجنون فإن الاسم لا يطبخ ولا يطعم الناس لذيذ الطعام، كأن العبرة بالأسماء.. يعني كل من علق قطعة صار يعرف يطبخ؟". ص90.

إلا أن أكثر ما يثير الانتباه في المخاض، هو ظهور القسوة في المجتمع العراقي، حيث نجد آمنة تسأل كريم: "قل لي لم هذه القسوة في هذه الأيام"، أيضًا: "لماذا لا تقول ببساطة أن الناس استولى عليهم حب الإيذاء..السادية"، يُجيب كريم: "ليست كل البلدان التي مررت بها كانت تمر بثورة". إن فرمان يجعل ردّ كريم على كلمة قسوة بكلمة ثورة، بما يوحي أن الكلمتين مرتبطتان، فلا ثورة من دون قسوة، لأن "الثورة تحتمل كلّ شيء.. الثورة صراع"، ينتهي الحوار بأن تقول آمنة "لا أدري.. لا أدري.. مجرد أن الناس تغيروا وأضحوا قساة كالحجارة، لا يرحمون ولا يعبأون لشيء. إذا لم يطعنوك بخنجر أهانوك ببرود دم". ص 147.

لم تكن هذه الجُمل التي تتعلق بقسوة الناس وساديتهم موجودة في روايتي "النخلة والجيران" أو "خمسة أصوات" اللتين تدوران في زمن العراق الملكي. فمن المؤكد أن هذا الخطاب هو خطاب جديد في أدب فرمان، ظهر بنشوء الجمهورية، لا لشيء إلا لكي يرصد أو يشير إلى التحول المرعب الذي طرأ على الناس وعلى طباعهم.

في كرّاس أصدرته اللجنة العليا لاحتفالات 14 تموز لعام 1960 وفي القسم الخاص بمديرية الإسكان العامة، تتحدث المديرية عن إدارة 34 مشروع إسكان في مختلف أنحاء العراق، تشمل أكثر من عشرة آلاف دار. أمام هذا السرد الرسمي للدولة، يكتشف كريم في الجزء الأخير من الرواية أن "الثورة" سلبت من أبيه بيته الذي صرف مجهود عمره من مال وصحة في بنائه، وأن المستفيدين من "قص البيوت" قلّه، "فهؤلاء كانوا شياطين كانوا يعترضون على الثمن ويعطون الرشوة فتأتي اللجنة لتعيد التقدير وترفعه ولكن هناك أناسًا قسطوا لهم الثمن تقسيطًا، تصوّر دفعت لهم أمانة العاصمة الثمن بالأقساط". 

سنكتشف كقرّاء وجهة نظر أخرى تخالف وجهة نظر الدولة حيث "القص شتت الناس" ص 142. أيضًا، لم تكن سادية الناس هي السمة الجديدة الوحيدة التي ظهرت في مجتمع "المخاض"، بل ظهرت أيضًا شخصيات تحمل وعيًا سياسيًا قادرًا على تحليل الأمور وطرح وجهات نظر بشأن سياسية الدولة، لم يكن لها صوت في مجتمع "النخلة والجيران" أو مجتمع "خمسة أصوات" برغم تقدّم مستواهم الثقافي.

"أنت توافقني في النهاية يعني المسألة مسألة رسوخ التنظيم الحضاري. إنه باهت عندكم، أنا لا أقصد بالتنظيم الحضاري شيوع المدارس، ولو أن ذلك يؤدي في الأخير إلى ذلك، ولكن الدعائم الثابنة من القوانين والعرف والأنظمة الأخرى في العراق يبدو ضعفه واضحًا للعين. قل لي أي قانون مصون عندكم؟ أي دستور.. أي تقليد؟". إن هذا النص الذي يقوله إسماعيل لكريم يحمل الكثير من الحقيقة التي قلّما نواجهها في الأدب العراقي، لأنه نص لا يختص بفترة زمنية محددة، بل هو نص ساري المفعول حتى الآن.

وعلى أرض الواقع كان خطاب الدولة يحمل الكثير من القوانين التي يتم التحكم بها بحسب مزاج الحاكم. فبمراجعة أحكام المحكمة العسكرية لرموز العهد الملكي أو "الخونة" برغم دكتاتوريتها وسخافتها، نجد أنها كانت تُترك ولا تُنفّد إذا قرر الزعيم عبد الكريم قاسم إيقافها. فالمحكمة كمثال، حكمت على محمد فاضل الجمالي بالإعدام شنقًا حتى الموت، والأشغال الشاقة المؤبدة مرتين، والأشغال الشاقة المؤقتة مرتين، وغرامات مالية، لكنّه برغم كل هذه الأحكام لم يتم إطلاق سراحه فحسب، بل أن الزعيم عبد الكريم قاسم استدعاه في أزمة الكويت، كما يذكر في كتابه "مأساة الخليج والهيمنة الغربية الجديدة" مع توفيق السويدي وأحمد مختار بابان ورشيد عالي الكيلاني وآخرون - كلّهم محكومون بالإعدام ـ "ونوّه بخدماتنا للبلاد معترفًّا بفضلنا مبينًا أنه أنقذ حياتنا من الشعب وحمانا من الشارع الذي كان يريد القضاء علينا".

انتهى مجتمع الخمسينيات في "خمسة أصوات" إلى شكله المنعزل الذي ساهم خطاب الدولة فيه وعززه برعب إسقاط الجنسية أو الحبس والنفي، فالجميع ـ بحسب أدب فرمان - كانوا منعزلين عن بعضهم وعن عوائلهم، برغم وجود الحب بينهم، لكنهم بكل حال كانوا يسكنون مع بعض. لكنه كان مجتمع كان يستطيع أن يقول "لا" بوجه السلطة وأن يتحداها ويكتب عنها.

أما مجتمع الستينيات في"المخاض" فقد انتهى بعوائل مفتتة سلبت "الجمهورية" منهم بيوتهم، ليتحولوا لمجتمع سادي تكون أكثر كلمة تتردد فيه هي كلمة "مؤامرة" وبأخ شيوعي هارب من الثورة نحو الكويت، وكان أخوه يبحث عنه ليقتله فاعتقلته الثورة أيضًا! وبابن يستعر من أبيه.

انتهى مجتمع الخمسينيات في "خمسة أصوات" إلى شكله المنعزل الذي ساهم خطاب الدولة فيه وعززه برعب إسقاط الجنسية أو الحبس والنفي

كان الشيء المهم في تلك الأيام هو "قطار الثورة" القطار الذي: "لا يتوقف في المحطات ولا يتريث، ولا يتلفت إلى الخلف، لا يهم كم خسر من ركاب، المهم أنه يسير، يلهث، يصهل في وجه الدنيا.. وكان ذلك أسوأ الأشياء" ص 353. 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قصة "سرد الدولة" في أدب غائب طعمة فرمان (2ـ5)

قصة "سرد الدولة" في أدب غائب طعمة فرمان (3ـ5)

قصة "سرد الدولة" في أدب غائب طعمة فرمان (4ـ5)