26-أكتوبر-2020

ثلاثة أرباع المنتمين إلى الجماعات هم من الفقراء والمحرومين (فيسبوك)

لا مكان للأفكار النظرية داخل الجماعات العقائدية (أيًا كانت توجهاتها الأيديولوجية)، إذ لا يمكن لهذه الأفكار أن تعزز الإيمان عند الجماعة، كما ولا يمكنها تنشئة جيل مؤمن يعتمد على الأطر النظرية كمقدمة لتعميق إيمانه. وحده استشعار الخطر والشعور بالتضامن يجعلها في تكاتف غير مسبوق وإيمان أعمق من السابق. خصوصًا إذا كانت تعتلي هرم السلطة السياسية، وثمة شيء ما يهدد وجودها. فلا مجال للجدل المنطقي لتعزيز قوة إيمان الجماعة وتماسكها، إلّا بما يصب في صالحها والدفاع عنها. بمعنى آخر، لا يمكنك أن تجعل من التفكير عاملًا جوهريًا في تعميق إيمانك، أو تتخذ منه بوصلة لتصحيح مسارك العقائدي كفرد داخل الجماعة، لذلك، لا يمكن السماح لحرية التفكير داخلها، ذلك أن حرية التفكير تتنافى تمامًا مع تكوينها الأيديولوجي والنفسي.

لا تطلب منك الجماعة مؤهلات أكاديمية أو قدرات ذهنية استثنائية؛ تطالبك بالولاء فحسب

 ولا علاقة بالقسر السياسي والاجتماعي بالانتماء للجماعة؛ بل يختار العضو، عن طيب خاطر، الدخول في هذه الدائرة. رغم أن حرية الانتماء لها أسبابها الاجتماعية والنفسية، وأهمها غياب النموذج، أي فقدان البديل. وفي مجتمع مثل المجتمع العراقي، يعاني من تهديم البنيان الاجتماعي وخراب المؤسسات، فلا ضمان حقيقي سوى تكاتف الجماعات الصلب، فهو الوحيد الذي يضمن ديمومة الفرد داخل الجماعة، وضمان حياته في مجتمع يفترس بعضه بعضًا.

اقرأ/ي أيضًا: سنوات المخاض

لا تطلب منك الجماعة مؤهلات أكاديمية أو قدرات ذهنية استثنائية؛ تطالبك بالولاء فحسب، وأن تكون حياتك وموتك مرهونين بحاضر الجماعة ومستقبلها. كما ولا نستغرب التشابه في التفكير والسلوك بين أفراد الجماعة، لأنها تخلق ذواتًا طبقًا لصورتها. وفي كثير من الأحيان يدافع المنتمون عن قضايا لا علم لهم بها، أو يكرهون أو يحبون اعتمادًا على ما تقرره سلطة الجماعة. بل لا يعرفون ماذا يكرهون وماذا يحبون بالضبط، غير أنهم على أهبة الاستعداد لطاعة الأوامر. بعبارة أخرى: أنا أحب وأبغض لا من قناعاتي الشخصية التي توصلت لها، بل لأن الجماعة أرادت ذلك. إن الفرد المنتمي "يفكر" من خلال الأطر والنقاط المرجعية التي حددتها له الجماعة سلفًا، ويكره ويحب من خلال القيم الذي رسختها في وجدانه السلطة الهرمية. إن استدعاء المنطق داخل الجماعة يعني استدعاء آليات دفاعية للحفاظ على وجودها، فتكون الآليات الدفاعية متشابهة عند جميع الأفراد؛ ما أن تعلن الجماعة كراهيتها أو حبها لقضية أو شخص ما، فسيتوحد المنطق وردود الأفعال ويبدو الأفراد داخل الجماعة كلًّا واحدًا متجانسًا وكتلة عاطفية واحدة ومتشابهة.

وفي هذه الحالة ليس ضروريًا أن يكون الإطار النظري الذي تستخدمه الجماعة يتسم بالترابط والإقناع، وليس ضروريًا إن كان هذا المنطق يمثل انعكاسًا للواقع، بل قد يكون منطقًا تجريديًا تافهًا وضحلًا، غير أنه يتسم بالعدائية والشراسة وتلوكه الجماعة فيما بينها لأغراض التطمين النفسي والحفاظ على صحة انتمائها. مثلًا، تعلن الجماعة حربها الشعواء على خصومها الافتراضيين بالحجج المنطقية الفارغة، ولا يهما إن كان هذا الجدل الفارغ يمثل الواقع أم لا؟ هل يجيب عن إشكاليتنا الحقيقية أو يهرب منها؟ هذه القضايا لا تندرج في سجل أولوياتها؛ فالحفاظ على وجودها هو النقطة الأولى والأخيرة.

إن الفخ المظلم الذي تسقط فيه الجماعات، هو مقدار التحشيد الهائل للحجج المنطقية التجريدية التي لا تلامس قضايانا الحقيقية، في حين أن واقعهم أسوأ بكثير من هذا التجريد، فأغلبية أفرادها من الفقراء. لك أن تتصور كل هذه المأساة المروعة التي يمر فيها العراق، ولا زالت الجماعة تقطّع أحشائها حول القدرة على الإقناع المنطقي لكل عدو جديد تخترعه. لو كانت قضايانا السياسية والاجتماعية تتوقف على الأقيسة المنطقية لكانت الدنيا بخير! إن الجماعة في سباق محموم لإبعاد أفرادها من حقوقهم السياسية والاقتصادية من جهة، وفي سباق محموم على من يمتلك القدرة الكافية على إبعاد الناس من الواقع من جهة ثانية. إنها قدرة كفاحية عزّ مثيلها!

على سبيل المثال، يشكّل "صراع الدين والعلمانية" عند الجماعات العقائدية أولوية قصوى، وإشكالية جوهرية في واقعنا السياسي والاجتماعي. فلنلاحظ مقدار المراوغة والهروب من الواقع بالاعتماد على هذا الموضوع المٌفتعَل، ومقدار الكذب على الذات الذي تمارسه الجماعات على نفسها وهي تحشد عشرات الحجج المضحكة لضرب العلمانية؟! ولا أفهم لحد الآن ماذا تعني كلمة "علمانية" في السياق العراقي! ما أعرفه ثمّة أفراد يتناثرون في مواقع التواصل الاجتماعي يتخذون من العلمانية هذيانًا لهم. لكن وعلى الرغم من ذلك تصر الجماعات الدينية، مثلًا، على وضع العلمانية في صدارة إشكالياتنا. والأمر ليس غريبًا إذا ما اكتشفنا أن ثلاثة أرباع المنتمين إلى الجماعات هم من الفقراء والمحرومين من أبسط حقوقهم، فمن الضروري ترويضهم على نسيان الحقوق عن طريق الانشغال بمواضيع هامشية وتافهة. ذلك أن الفقر والحرمان وفقدان الشعور بالوجود هو رأسمال الجماعة، فإذا عُرف السبب بطل العجب.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

تحديات جسيمة ورهانات غائبة

الأجيال الجديدة: لحظة في وجه الذاكرة!