26-سبتمبر-2019

لا بد له من بنية تحتية لكل تفكير ناضج يهدف إلى التقدم والبناء (Getty)

بعض الأحيان أفكر: ما جدوى تشريع القوانين طالما ستبقى حبرًا على ورق؟. ما جدوى أن نشرّع قانونًا يكفل حرية التعبير والمعتقد في ظل ثقافة اجتماعية مقاومة للتغير؟. لكي نفهم الدرس جيدًا، فعلينا أن نتبصر هذه الحقيقة: إن لكل شيء بنيته التحتية. على سبيل المثال، حينما نسعى لتأسيس فكر عقلاني، ينبغي  تشييد البنى التحتية  لهذا الفكر العقلاني، وهذه الأخير قائم على المفاهيم؛ لن تثمر عملية تفكير بشكل مُمنهج، مالم ترافقها أدواتها الضرورية، فالفكر لا يمكنه أن  يتقدم ويحلل الظواهر مالم تسعفه المفاهيم. بخلاف ذلك ستنتشر الخرافات وتحل الشعبوية مكان الفكر الرصين، ويصعب على مجتمع بهذه المواصفات أن يفرز لنا مفكرًا يساهم في إنتاج الفكر، اللهم إلا إذا كان دارسًا في إحدى الجامعات العالمية على الأغلب.

التفكير الناضج، ولكي يتحول إلى سياسات فعلية، لا بد له من بنية تحتية وهي الأكاديمية. فالبنية التحتية للحداثة هي العقلانية بالتأكيد

ثم أن الفكر المنتج والملتزم لا يمكنه أن يثمر في ظل بيئة تعليمية متردية، وإنما يعطي ثماره وينجب مفكريه في ظل مناخ أكاديمي خصب وأساتذة فكر مرموقين. فلنتصور أوروبا بلا جامعات ماذا سيكون حالها، وهل ستنجب لنا هذه الكوكبة الكبيرة من العلماء والفلاسفة والأدباء والفنانين؟. بل أن ميزة أوروبا ونقطة انطلاقها العظيمة بدأت من الأكاديمية، ومنها انطلقت إلى العالم. بل أرسلت باحثيها لدراسة باقي الشعوب والتهيئة الكاملة لاستعمارها. معنى هذا، إن التفكير الناضج، الوطني والاستعماري على حد سواء!، لكي يتحول إلى سياسات فعلية، لا بد له من بنية تحتية وهي الأكاديمية. فالبنية التحتية للحداثة هي العقلانية بالتأكيد، وهذه الأخيرة وجدت لها أرضًا خصبة وهي الأكاديمية، فلا ثمار بلا أرض، وفي النتيجة: المعرفة قوة.

اقرأ/ي أيضًا: دوائرنا السياسية المغلقة.. الإدانة وحدها لا تكفي!

 ما جدوى تشريع قانون ينصف المرأة ويساويها بالرجل، على سبيل المثال، في ظل ثقافة ترفض هذا القانون تمامًا، ولماذا اختفت هذه الثقافة في ظل قانون كان يسندها، وهو قانون الأحوال الشخصية الذي سنته حكومة عبد الكريم قاسم آنذاك، وقد أثار لغطًا كبيرًا في حينه. ألا يشير هذا إلى أن تشريع هذا القانون كان مستعجلًا ولم يراعِ الظروف الاجتماعية، أو يؤسس للمقدمات والشروط الضرورية لإنجاحه؟

 بعبارة موجزة: كيف نشرّع قوانين تتناقض مع بنية اجتماعية تتكون من القبيلة والمذهب؟. ألا يكون الكلام عن أفكار رائدة وتقدمية في مثل هذا الوضع تغدو كلامًا شعريًا حالمًا؟. ألا تكون كمن ينتظر الثمار بلا زرع، أو كمن يرمي السهم بلا وتر، هل يمكن الكلام عن ثمرة بلا أرض خصبة؟

حينما نفكّر في تشريع قانون ينصف المرأة، قبل كل شيء ينبغي دعم المرأة في التعليم والعمل لكي تكون مقدمة مستقبلية لتمكين المرأة. إن التمكين الاقتصادي والثقافي هما مفتاح المرأة نحو المساواة؛ فهاتان المقدمتان دعامة مهمة وصلبة لكل عملية تقدمية في المستقبل تحاول إنصاف المرأة، وعلينا أن نتذكر أن الكلام وحده سرعان ما يتبخر طالما يبقى في نطاق التهويمات الشعرية. أما فيما يخص الحريات الزائدة التي نحلم بها في بعض الأحيان، فهي سابقة لأوانها، لأنها، ببساطة شديدة، تفتقر لبنية تحتية صلبة.

ما أفهمه: حتى نشرع قوانين للحريات العامّة والخاصة يفترض بنا أن نؤسس بنية تحتية اقتصادية تهدف لرفاه الأغلبية؛ فالمواطن ترتبط حريته برفاهيته الاقتصادية، شريطة أن لا يكون الرفاه  مبررًا للقمع والطغيان على طريقة الدول الريعية: الرفاه الاقتصادي مقابل تكميم الأفواه. تقول حنة ارندت في كتابها "في الثورة" ما مضمونه، إن المهاجرين الذي قدموا إلى أمريكا، لم تدفعهم الحرية، وإنما تلك الأرض التي تدرّ اللبن والعسل. وتقول أيضًا، حينما خٌيّر لينين بين الانتخابات ومد الكهرباء للبلاد، اختار الثانية، لأنه أدرك تمام الإدراك، أن التكنولوجيا كفيلة بانتشار الاشتراكية من جهة، كما وإن الجياع لا يدركون الحرية من جهة أخرى.

كيف نحقق شروط النهضة المرجوة في ظل مجتمع تتقاذفه الهويات الفرعية، مفضلًا إياها على هويته الوطنية؟ ومن يقوم بهذه النهضة "الحالمة"؟

 الجميع يطالب بالحرية، لكننا لا نفكر بالكيفية التي نساهم فيها بتحقيق حريتنا، ذلك إنها لا تأتي مجردة، وإنما تحتاج إلى إظهارها عدة مقدمات؛ فالمجتمع الممانع والذي يقاوم أي عملية تغيير، سينصاع في نهاية المطاف إلى سطوة الحرية إذا تعلق الأمر بمصالحه الاقتصادية، وسيبدي مرونة تجاه حريات الآخرين، وسيبحث عن تشريعات اقتصادية تحمي رفاهه الشخصي، وعن تشريعات سياسية تضمن له حرية التعبير والتفكير، وقبل كل هذا، عن نظام سياسي يضمن له الممارسة الديمقراطية بلا إكراه. وسيكون الأفق الذي يدور عليه، هو العدالة السياسية والاقتصادية والمواطنة.

اقرأ/ي أيضًا: المواضيع الهامشية هي الحل!

كيف نحقق شروط النهضة المرجوة في ضل مجتمع تتقاذفه الهويات الفرعية، مفضلًا إياها على هويته الوطنية؟ ومن يقوم بهذه النهضة "الحالمة"؟ لا تنجح لدينا ثورة "بلشفية" لأنها تفتقر إلى بلاشفة!، لا تنجح لدينا ثورة "برجوازية" لأنها تفتقر لبرجوازيين، لا ينجح لدينا انقلاب، لأنه سيكون أسوأ من سابقه، وعلى فرض حسن النية، لو افترضنا سلامة نوايا الانقلابيين، فسيتبخرون بأيام من قبل المهيمن الغربي، أو يخضعون لشروطه المجحفة. إذن ماهي البنية التحتية لهذه التغيير؟ فاعل تاريخي تقدمي يكون على عاتقه تغيير الواقع نحو الأفضل من خلال إدراكه العميق من أن الشباب هم زرعنا القادم.

إن التأسيس شرط لكل حراك سياسي ينشد التغيير، وبخلافه تغدو كل تحركاتنا عبارة عن فورات تنظيرية وحماسية تعوزها الدقة والوعي التاريخي. إذ سرعان ما تتبخر وتترك في أعماقنا الأثر السيئ والإحباط الذي يقودنا إلى العدمية واللا جدوى. 

إن ( الثورة.. النهضة.. الإصلاح) بصيغتها السياسية، شرط ضروري لكل عملية تغيير قادمة. إن أي ثورة، سمّها ما شئت، مالم تكن سياسية بحتة فلن تنجح في عملية التغيير. والبنية التحتية المفترضة لهذا التغيير السياسي هي الديمقراطية، فلا يمكن استعباد الناس بحجة الغايات النبيلة، وقد صرخت روزا لوكسمبورغ في وجه البيروقراطية السوفيتية قائلة ما مضمونه: هذه ليست دكتاتورية البروليتاريا، بل ديكتاتورية البيروقراطية.

يبقى سؤال أخير: هل هناك بنية تحتية لحركة الصيرورة؟! أليست هي صيرورة تتكامل بذاتها فماذا نفترض لها بنية تحتية؟. في الحقيقة إذا كنا نتكلم عن صيرورة رغبية فعندها يصح هذا التساؤل، أما إذا كانت الصيرورة داخل حركة التاريخ، فليس بالضرورة أن تقودنا إلى التقدم، وليس بالضرورة أن يكون كل مخاض يقودنا إلى ولادة صحية، بل قد يفضي بنا إلى نفق مظلم ومولود مشوه، مثلما أنتج لنا الاجتياح الأمريكي مولودًا مسخًا أطلقوه عليه "ديمقراطية".

ليس بالضرورة أن يكون كل مخاض يقودنا إلى ولادة صحية، بل قد يفضي بنا إلى نفق مظلم ومولود مشوه، مثلما أنتج لنا الاجتياح الأمريكي مولودًا مسخًا أطلقوه عليه "ديمقراطية"

 فبعد مخاض العقود السالفة أنتج "العراقيون" ذلك المسخ، لأن التلاقح المرجو لم يحدث من الداخل، بل عن طريق عملية غير شرعية، إذ كان المهيمن الخارجي هو مهندس عملية الانسداد وعرّابها الأوحد. مضافًا إلى عدم تحقق الشروط الضرورية للبنية التحتية، وهي هنا الفاعل التاريخي التقدمي الديمقراطي الذي ينطلق من الداخل.

اقرأ/ي أيضًا: هل يملك الضعفاء ترف الاختيار؟

إذن، الخطوة الأولى للحفاظ على هذا المخاض، هو أن تتضافر الشروط الضرورية لإنجاح عملية المخاض، وهي كل هذه البنى التحتية التي ذكرناها، ويكون الحاضن لكل هذه البنى، هي الدولة، فبخلافها لا شيء يحدث. بل إن الدولة هي بمثابة  الروح التي تبث الحياة بحركة الصيرورة.

من الطريف أن نذكر هنا، إن هذه الخطوات مجتمعة يمكنها أن تكون بمثابة نقد للخطاب الديني!.. أي أنها ستكون أكثر عملية من الكتب (رغم أهميتها بالتأكيد)، ذلك إن الدين، بحسب ماركس، لا يقطن في السماء، بل يتواجد في مؤسسات اجتماعية ضخمة، فالخطاب الكفاحي النقدي ضد الدين لا ينتج ثمرة حقيقية إذا ما قورن  بالمقدمات  التي ذكرناها: بناء المؤسسات التي تسهم مساهمة فعالة في تشييد البنى التحتية للفكر والسياسة والاقتصاد.. الخ، هي من ستكون السارية التي يرفرف عليها لواء التغيير.

أعرف أن الأمور لا تجري بهذه الميكانيكية التبسيطية، وبهذا المنطق التراتبي؛ وإنما تجري بتداخل كل هذه الأمور أو بعضها، وبالطبع لا يقينية في هذا الطرح بقدر ما هي محاولة للتفكير. كذلك أعرف أن التحديات جسام، لكن وبما إننا على قيد الحياة فالواقع مفتوح على شتّى الاحتمالات، والمتبصّر من يعتبر من حركة التاريخ.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

صنّاع الاحتقار الجدد في العراق

عالم يحكمه الأقوياء!