على الرغم من مرور 17 عامًا على احتلال العراق، وسقوط نظام صدام حسين في نيسان/أبريل 2003، وما رافقه من تحولات، أهمها ما يفترض أنه بناء نظام سياسي ديمقراطي استبشر فيه بعض العراقيين خيرًا، بعد تخلصهم من الاستبداد وآثاره عليهم، وعلى الرغم من أن العراقيين دفعوا ثمن هذا التحوّل الديمقراطي الذي ولد من الركام والويلات، فإن اليأس تسرب إليهم، بعد أنَّ رأوا الديمقراطية التي يمنَ عليهم بها رجال العملية السياسية بلا جذور راسخة عائمة في لجج المصطلحات الهلامية، فضلًا عن أن الدولة لا زالت حاضرة بقوة.
أغلب القوى الفاعلة في العراق تعمل من منطلقات دينية وتعود لمرجعيات دينية هرمية بعينها وهذا ساهم في تقبل حالة الديمقراطية الهشة
وخلال كل هذه السنوات التي انقضت لم يكسب العراقيّون من رجال الدولة غير اجترار مقولات الديمقراطية وحقوق الإنسان دون أي تطبيق يذكّر على أرض الواقع بل العكس؛ حيث انهار مفهوم المواطنة، وكُبلت الحريات، وقتل مئات المتظاهرين، وانتهكت سيادة البلد في مناسبات عديدة، والتي هي من أهم خصائص الدولة، فكيف يمكن للعراقيين أن يتحدثوا عن نظام ديمقراطي، عماده سيادة القانون في ظل صعود "الميليشيات" ورسوخ الأحكام العشائرية والأعراف والتقاليد القبلية التي حلت محل القانون؟
اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا نتغيّر؟
المهتمون يطرحون أسئلة في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الحوارات، عن واقع الديمقراطية في العراق، وهل هي أصوات توضع في صناديق الاقتراع أم هي فكر وواقع يقوم على الاستقرار السياسي والاجتماعي ودعم إرادة الفرد؟ وهل يمكن الحديث عن نظام ديمقراطي في ظل صراع الأحزاب المتعطشة لنهب المال العام والكثير منها يملك السلاح، ويتقاسمون النفوذ، ويؤسسون الفصائل المسلحة؟ وكما يبدو أن موضوع الديمقراطية في العراق، لم يأخذ حقه من البحث والإجابة على أسئلة المهتمين، فيما طرح "ألترا عراق" بعض هذه الأسئلة على أساتذة في كليات العلوم السياسية فضلًا عن باحثين مهتمين بالشأن السياسي والاجتماعي.
يقول محمد حسين دخيل، وهو أستاذ النظم السياسية في جامعة الكوفة: "تتمثل معرقلات التحول الديمقراطي في العراق ببعض الجوانب، منها ما يتصل بالبعد الاجتماعي المرتبط بالناحية العشائرية واستغلالها سياسيًا، ويرتبط البعد الآخر، بالنواحي الدينية والطائفية وتأثيراتها السياسية، فضلًا عن ضعف دور الدولة وحداثة التجربة، ووجود الإرهاب والجماعات المسلحة والأنفاق الكبير على الاسلحة بدل بذلها في تطوير الاقتصاد والتنمية وتدخل دول الجوار ومحاولة إضعاف التحول الديمقراطي، مبينًا أنه "لا بد من ربط حداثة التجربة الديمقراطية وإرث الأنظمة السياسية المتعاقبة وضرورة تطوير الواقع التعليمي وعلاقته المباشرة بالتحول الديمقراطي ومكافحة الأمية الثقافية، فيما أشار إلى أنه "ينبغي أيضًا تطبيق معايير المساواة والمواطنة الفعلية لإيجاد الأرضية الملائمة للتحول الديمقراطي، أما عن الديمقراطية التوافقية فيمكن القول إنها صورة من صور الديمقراطية، ومطبقة بشكل أو بآخر في كثير من دول العالم وقد اتت بنتائج إيجابية كونها من وسائل حل الصراعات وتقديم التنازلات وإدارة الخلافات، أما الاستغلال السلبي لها أحيانًا لا يمنع وجود إيجابيات لها".
لكن الكاتب والمهتم بالشأن السياسي، هشام الموزاني، يقول إن "الانتقال الديمقراطي في الدول العربية وخصوصًا في العراق بشكل واضح هو انتقال أداتي، أكثر منه تحولًا واعيًا يستند إلى ثقافة مدنية تكون داعمة وتسحب المجتمع من خانة المعوقات، مبينًا "لا يمكن حصر العوائق أمام التحولات الديمقراطية بسهولة، خصوصًا أن الأمر يقرأ اجتماعيًا أكثر منه سياسيًا على الأقل في العراق".
أضاف الموزاني، أن "أخذ جزئية الأحزاب السياسية الفاعلة على الساحة العراقية والتيارات الشعبية ذات التمثيل السياسي والممثل لجماعات بعينها سيعطينا فكرة ولو مجتزأة عن نوع من أنواع العوائق أمام التحول الديمقراطي، موضحًا أن "أغلب الأحزاب والتيارات السياسية العراقية هي تيارات معارضة مسلحة في حقبة البعث، وتعرضت للقمع ومنذ 1963 انتهت الحياة السياسية لأغلب الأحزاب تحت شعارات انقلاب عارف ومن بعده سلسلة انقلابات البعث، كُل هذا أفقد الثقافة المدنية مكّانتها لصالح الشرعية الثورية، ولم يكن التغّيير بعد 2003 هو أمر من ضمن الصيرورة الفكرية أو جهد وصراع دخلت فيه الأحزاب والتيارات السياسية لتنتج تجربتها الخاصة وصولًا إلى توافقات سياسية تسمى الديمقراطية مهما كان نوعها، لافتًا إلى أن "التغّيير الخارجي أضاف عبئًا على الوضع الملتبس أصلًا، فشرعية التغيير أصبحت عائقًا للديمقراطية، إذ أن الشرعية الثورية تعيد إنتاج نفسها على حساب الممّارسة الديمقراطية وهذا خلق مجال لقبول على مضض للديمقراطية الإجرائية مع الحرص على عدم تطورها، وكان الصراع الطائفي والعرقي هو عامل وجودي لهذه الأحزاب والتيارات وعذرًا مقبولًا لإيقاف عجلة الديمقراطية تحت شعار حماية الوجود".
تابع الموزاني أن "أغلب القوى الفاعلة تعمل من منطلقات دينية تعود لمرجعيات دينية هرمية بعينها وهذا ساهم في تقبل حالة الديمقراطية الهشة أساسًا، وساهمت الطبقة السياسية المتنفذة في هذه الأحزاب في خلق مجموعات كبيرة من الأتباع المطيعين لأغراض الانتخابات والتجمعات، مستخدمةً التوظيف، والفرص الاقتصادية والاستثمارية، ساهمت هذه التوجهات في خلق أتباع واستزلام أكثر من حياة سياسية سوية".
فيما يرى أستاذ الفكر السياسي في كلية العلوم السياسية جامعة الكوفة، أسعد كاظم شبيب، أن "مخاضات العملية السياسية في العراق بعد عام 2003 تشير إلى وجود عجز في عملية التحّول نحو ترسيخ قيم الديمقراطية خاصة على المستوى السياسي، وهذا راجع إلى المسببات الآتية:
- غياب الثقافة الديمقراطية عند الأحزاب والتيارات السياسية، وإذا ما أخذوا بالديمقراطية فإنها للحصول على مغانم السلطة ليس إلا.
- بدايات العملية السياسية سيطر عليها النهج التحاصصي مكوناتيًا وعرقيًا، وحزبيًا، وبتداول السنين بات ذلك أشبه بالعرف في تقاسم السلطة، حتى مع الانتقال للسلطة عبر الانتخابات في حين أن مبادئ الديمقراطية تنص خلاف ذلك، وهذا العرف السياسي شكل معوقًا آخر للتحول الناضج باتجاه الديمقراطية.
- هناك مشاكل أخرى كغياب ثقافة المواطنة لدى الجمهور العراقي، في إفراز الصالح من الطالح قبل كل دورة انتخابية؛ مما شكل ذلك دوامة في وصول غير الديمقراطيين إلى السلطة، إلى جانب مشاكل أخرى كتجذر قيم القبيلة، الانتماءات الخارجية وفق أسس سياسية وأيديولوجية.
بينما يقول الكاتب قيس حسن إن "الوهم الكبير الذي وقعنا في شباكه، هو الاعتقاد بأن ما يعقب نظام حكم صدام هو نظام مخالف له بكل الأحوال والتفاصيل، أو على الأقل نظام سياسي أكثر إيمانًا بالديمقراطية وأكثر حرصًا على تنميتها وتعزيز مؤسساتها وتقوية سلطتها، باعتبار أنه ليس هناك حلًا يخرج البلد من كارثته سوى إقامة نظام ديمقراطي، فهو الحل الوحيد، مستدركًا "لكن الذي حصل هو أنَّ عوائق إقامة الديمقراطية وهي أكبر بكثير من عوامل بناءها وتعزيزها، قد جرى القفز عليها أو ربما تعزيز أثرها وعدم الالتفات إلى خطورتها".
عدم وجود قيادات حقيقة تؤمن بالنظام الديمقراطي وبالممارسات والسلوكيات الديمقراطية جعلت المواطن العراقي يتساءل عن جدوى الانتخابات والنظام الديمقراطي
أضاف حسن: "لقد ورث العراق بعد ثلاثة عقود ونصف على حكم حزب البعث وسلطة صدام حسين، اقتصاد منهار، قمع سياسي أحال السلم المجتمعي إلى حطام، انقسام طائفي وقومي وصل إلى حد تمزيق وحدة البلد، فقدان الثقة بين المكونات، انهيار الطبقة الوسطى، علاقات بالغة السوء والتدهور مع المجتمع الدولي ومؤسساته الرسمية وغيرها من العوامل التي كانت في حقيقتها تشكل تحديات جادة أمام النظام الجديد، وهي تعمل على منع أو إعاقة بناء نظام ديمقراطي، فيما لو لم يكن هناك عمل جاد ودقيق من أجل التقليل من مخاطرها".
اقرأ/ي أيضًا: صراع النماذج
لفت حسن إلى أنه "كان الأمل بأن كل هذه التحديات يمكن تقليل أثرها فيما لو حلت طبقة سياسية، تدير الأمور بوعي سياسي يشخص طبيعة تلك التحديات ويعالج أسباب إعاقة الديمقراطية ولكن الذي حصل كان مغايرًا تمامًا لما هو مأمول أو مطلوب، فقد حلت طبقة سياسة جاهلة، فاسدة، مصابة بالكثير من العلل النفسية والتدني الفكري والأخلاقي، وبدل أن تقدم حلولا للإرث السيئ قامت بتعزيز ذلك الإرث وعمقت أثره السلبي، فقد انخرطت في صراع طائفي شديد الدموية والعنف بدل أن تكون عامل تهدئة، وأدارت بشكل منهجي عملية نهب هائلة للموارد المالية بدل أن تعالج الانهيار الاقتصادي الموروث، وعززت من عوامل فقدان الثقة بين المكونات بدل أنَّ تكون عنصر لتعزيز الثقة، وفتحت الباب أمام تدخلات خارجية مريعة وخطيرة بدل أنَّ تعزز من فكرة السيادة الوطنية، مبينًا "الملاحظ أنَّ ما قامت به النخب السياسية هو أنها فعلت تمامًا عكس ما يفترض أنَّ تفعله، فهي جعلت من عوامل هدم الديمقراطية عوامل بناء لسلطتها ونفوذها".
تساءل حسن "هل يمكن أن نعتبر تقبل الأمريكان للعمل مع أحزاب الإسلام السياسي التي تخالف في خطابها وسلوكها وتفكيرها أسس النظام الديمقراطي كان أمرًا جادًا ومنسجمًا مع "ديمقراطيتها"؟ أي شكل من أشكال الديمقراطية هو الذي تؤمن به أحزاب متطرفة دينيًا وقوميًا؟ موضحًا أن "هذا الشكل العراقي للديمقراطية هو ما نعيشه ونكتوي بناره يوميًا. ديمقراطية "مسخ" مثلها مثل أحزابها وقادتها الذين لا يخفون فكرتهم عن الديمقراطية فهي بالنسبة لهم (مطية تقودهم إلى السلطة) وحين يصلون إليها، فالطريق سالك أمامهم للبقاء فيها، الديمقراطية بالنسبة للنخب وأحزاب السلطة ليست وسيلة لخدمة المجتمع وإدارة مؤسساته وسلطته، بل هي طريق للوصول إلى السلطة لذلك تحولت الديمقراطية في العراق إلى ديمقراطية شكل فقط وليس مضمونًا (صندوق انتخاب، تداول سلمي للسلطة، مؤسسات مستقلة ظاهرًا، إعلام حر ظاهرًا) إلخ.. متسائلًا "ما هي الديمقراطية التي تنتجها نخب سياسية لا تؤمن بها؟! هذا ما يعرفه العراقي ويعيشه ويسخر منه".
أستاذ الفكر السياسي في جامعة الكوفة، أياد العنبر يقول إنه "على الرغم من إيماني بفكرة التقادم بالممارسات الديمقراطية وبأنها الوحيدة القادرة على تصحيح مسار بناء النظام السياسي، إلا أن تحدي موت الديمقراطية بات يهدد التجربة العراقية، مبينًا "فعدم وجود قيادات حقيقة تؤمن بالنظام الديمقراطي وبالممارسات والسلوكيات الديمقراطية جعلت المواطن العراقي يتساءل عن جدوى الانتخابات والنظام الديمقراطي، إذ يمكن القول بوجود حالة من الجزع والتفكير بعدم جدوى الديمقراطية باتت تظهر بصورة واضحة في الرأي العام العراقي، فالعراقيون اتجهوا نحو صناديق الاقتراع للمرة الخامسة منذ 2003، إلا أن مشكلة الانتخابات أنها لا تزال غير قادرة على إنتاج نظام ديمقراطي حقيقي. وهنالك شعور عام يفيد بأنها (أي الانتخابات) لن تنتج تغييرًا يمس حياة المواطن العراقي".
بيّن العنبر أن "هذا الشعور العام بعدم جدوى الديمقراطية، ناتج بالدرجة الأساس عن عدم وجود أحزاب وقيادات تؤمن بأن الديمقراطية ليست انتخابات وحسب، بل منظومة مؤسساتية تعتمد الانتخابات كمدخل لمنح الشرعية للنظام السياسي، ومن ثم توثق العلاقة بين المواطن والمؤسسات السياسية. وفي ظل غياب المنجز السياسي والاقتصادي وعدم قدرة النظام السياسي على تحقيق التنمية، فإن التساؤل بشأن جدوى الديمقراطية يبدو منطقيًا للوهلة الأولى".
لفت العنبر إلى أنه "إذا أبعدنا فرضية دور التقادم الجيلي في تصحيح مسار التحول الديمقراطي، فالقيادات والأحزاب العراقية لا تزال تدور في دائرة ما اصطلحوا عليه بـ"نظام المحاصصة"، والمشكلة أن هذا النظام الذي هو نتاج لهذه الأحزاب مرفوض ومنتقد في العلن، ويعتمد في توزيع مغانم السلطة في الواقع. فالنظام الانتخابي، وتوزيع الهيئات "المستقلة" على مرشحي الأحزاب، ناهيك عن الوزرات والمناصب العليا في مؤسسات الدولة والتي تدار أغلبها بالوكالة، وهو دليل واضح على التعاطي بمنطق الغنيمة مع الدولة".
أشار العنبر إلى أن "الديمقراطية التوافقية، التي تحولت إلى نظام محاصصة، باتت ملعونة من قبل السياسيين العراقيين ويحملونها جميع الأخطاء في العملية السياسية منذ 2003، فيما يتجاهلون دورهم في انحرافها عن غايتها الأساس بتطمين الجماعات المتمايزة عن بعضها الآخر وتبديد مخاوفها، عبر إعطائها حقوقًا متساوية فيما بينها، في اتخاذ القرارات في الحكم، وليس تحويل مؤسسات الدولة، بعنوان التوافقية، إلى إقطاعيات طائفية وحزبية وعائلية"، مبينًا "فالديمقراطية التوافقية ـ كما نظر لها آرنت لبهارت ـ تحتاج إلى تعاون بين قادة الطوائف، وهذا يستلزم أن يشعر القادة بشيء من الالتزام بصون وحدة البلد، على الأقل بالممارسات الديمقراطية أيضًا، وعليهم أيضًا أن يتحلوا بالاستعداد الأساسي للانخراط في الجهود التعاونية مع قادة المكونات الأخرى بروحية الاعتدال والحلول الوسط. ولا بد لهم في الوقت نفسه الاحتفاظ بولاء أتباعهم ودعمهم. ولذلك يتوجب على النخب أن تقوم باستمرار بعملية توازن صعبة. فإذا كانت النخب السياسية العراقية مأزومة بوعيها الطائفي والقومي، وغير مؤمنة بالديمقراطية فكيف يمكن التعويل عليها لإنجاح نظام ديمقراطي؟".
تابع العنبر أن "التهديدات التي تواجهها عملية التحول الديمقراطي في العراق عديدة ومعقدة، فأسوأ تحد تواجهه الديمقراطية في العراق يكمن في قيام (ديمقراطية من دون ديمقراطيين)، كما يصفها غسان سلامة. ولعل نتاجات ذلك نظام انتخابي يراعي بالدرجة الأولى والأخيرة مصالح الأحزاب والنخب السياسية الحاكمة، فهي تنظر إلى الديمقراطية كآلية لتنظيم المشاركة ومنح الشرعية للسلطات السياسية، فحسب، وتتجاهل الغاية الرئيسة من الديمقراطية في تحقيق السلام والاستقرار السياسي والاجتماعي".
فيما يعتقد الكاتب علي طه، أنه "ثمة ملل من قراءة التنظيرات المتكاثرة حول أزمة التحول الديمقراطي في العراق الجديد ما بعد 2003، مستدركًا "لكن ذلك الملل يحمل تبريره بنفس الوقت، لكون التنظيرات تنطلق من أشخاص أما جهلة من عامة الناس أو أشخاص مشبوهي التمويل والدعم، وبذلك لا يمكنك أن تعرف ما يجري ولا ماذا تفعل، حيث ثلة قليلة جدًا تكتب بضميرها، لكن الضمير وحده لا يكفي، نحن بحاجة للخبرة والاختصاص، فكم من علماء اجتماع ومفكرين تناولوا أزمة التحول الديمقراطي بالعراق، من بوابة الرصانة المنهجية، أمام تكاثر الاهتمام بالأدب من شعر وروايات نجد التراجع في الاهتمام بالفكر والعلوم الإنسانية، وكأن الأمر أزمة هروب من مواجهة الواقع الذي يقتضيه الفكر حيث صلابة الذات أمام هوايته، إلى متعة الفنتازيا الأدبية، وصناعة المخيلة البديلة عن الواقع ذات البعد الرومانسي المطيّب للخاطر، وهنا نفقد الأدب حتى، فليس الأدب مجرد تسلية، وكونه كذلك يعني خروجه من لب لباب الأدبية ليكون تهريجًا، وإلا فإن الأدب العظيم ينطلق من إطار فكر عظيم".
أكاديمي: التهديدات التي تواجهها عملية التحول الديمقراطي في العراق عديدة ومعقدة، واسوأ ما تواجهه يكمن في قيام "ديمقراطية من دون ديمقراطيين"
يتساءل طه "عن المفكرين المنظرين لموضوع الديمقراطية، مضيفًا "أين النماذج التي يمكن أن نعِدها مشاريع فكرية مثلما نرى نماذج متكاثرة حولنا نعدها مشاريع أدبية، هنا أضع يدي على أول معوق من معوقات التحول الديمقراطي في العراق، بكون البلد يعاني فقرًا كبيرًا من وجود قاعدة فكرية تنظيرية يمكن الاعتماد عليها كمرجعية في التصرف والسلوك السياسيين، وليس غريبًا على أحد بأن مفاهيم العلمانية وحقوق الإنسان والديمقراطية وعموم ملحقاتها وتفاصيلها الدقيقة غير معروفة، أو معروفة بشكل متناقض حيث تراشق الشعارات ضد بعضها من قبل مجاميع ليست أكثر من كون أفرادها من المدونين". ،
أضاف طه "إذا كان الأمر هكذا، حيث فقر التثقيف بالمفاهيم الأولية والبديهية عند العالم المتحضر، فكيف بمفاهيم وأوليات تخص الشأن العراقي، باعتبار نماذج الديمقراطية المطبقة في واقع ما، لا يجوز نقلها حرفيًا إلى واقع آخر، وإلا لأنتجت الضد وانتهكت نفسها بنفسها، مما يعني أن النموذج الديمقراطي له جنبة محلية ذات بعد خصوصي يخرج من منظور يتناول الواقع، الواقع العراقي مثلًا، فتكون هنالك ديمقراطية عراقية لا أمريكية! مبينًا "هنا يبدو أنني وضعت اليد على معرقل ثانٍ، هو نتاج الأول، بمثابة أبيه أو أخيه، وربما ابن عمه، كون النموذج الديمقراطي ذو سياق تدريجي، ليس من الفكر والتثقيف -الذين نفتقدهما كما في النقطة الأولى- فقط، بل من حيث آليات التطبيق وروحية الممارسة، ولنا أن نتذكر بأن ديمقراطية فرنسا بدأت 1906 م بعد قرون من الصراع والتحرر والتنظير والتطبيق، كما أنها لم تعطِ للنساء حق الانتخاب إلا في خمسينيات القرن المنصرم! هذا يعني أنَّ الفعل الديمقراطي لن يتحقق من خلال الأحلام، ولن يتحقق كما في الأحلام، بل هو نموذج تاريخي له سياقه المتطور، حيث يسبقه ويوازيه فكر مرجعي عينه على الواقع المطبق فيه، يمكن تلخيص ذلك بعبارة وجيزة: فعل هو تحصيل حاصل جدلية الفكر مع الواقع".
اقرأ/ي أيضًا: إرث الاستبداد الثقيل
يشير طه إلى "كتاب (الأيديولوجيا العربية المعاصرة" لعبد الله العروي، أنه ينوه إلى نقطة ذات مركزية هائلة في بنية التفكير الأيديولوجي عربيًا، هي أزمة انفصال الفكر عن الواقع، اذ يكون الفكر أما سلفيًا أو غربيًا، كلاهما وليد واقع ليس واقع الحاضر، هنا تنشأ الأيديولوجيا باعتبارها وعيًا زائفًا بالواقع، فهل يمكن القول إنَّ الصراع، صراع النماذج، بين مدونينا في الميديا والصحف، ليس إلا تصعيدًا أيديولوجيًا، باعتبار كل ما نعرفه عن نماذج الديمقراطية، ليس إلا مقولات شعاراتية يتنفس من خلالها أصحابها في أزمتهم الاجتماعية باعتبارهم مطرودين من رحمة واقعهم الاجتماعي وقبوله؟! فكر+ تثقيف+ ممارسة= صفر، فكما التثقيف ليس إلا صراعًا تنفيسي، والفكر أيديولوجي، ستكون الممارسة ثملة في أحضان قوى وعوامل وأطراف هي بالضد من إنتاج النموذج العراقي، إنما تلعب بمقدرات البلد من أجل مصالحها الخاصة، وهذا ما نشاهده حاليًا ومنذ 2003 حيث الصراع القطبي بين أمريكا وإيران على الفاتنة العراقية، والعراق ليس إلا أداة توسع ونفوذ للطرفين، وكذلك أداة حلب اقتصادي مروع، فقدان الفكر السياسي الرصين ذو المحمول الاختصاصي كأن يكون ناتجًا من يراع مراكز دراسات تخصصية، وفقدان تثقيف فاعل وجاد يزاحم التثقيف الديني المتكاثر والغازي لكل مرافق الحياة وأماكنها، مما أدى لعدم وجود شرائح ذات توجه علماني وديمقراطي حقيقية ومنسجمة، مضافًا -كنتيجة كما بينّا- فقدان وجود سياسيين وأحزاب علمانية ومدنية فاعلة".
لفت طه إلى أن "فقدان كل ذلك جعل من القوى القطبية تلك تصنع من العراق أداة ربط ولا يمكنه أنَّ يكون فاعلًا في الجملة، أو هو ليس إلا مفعول به أول وثاني وحتى ثالث عند الحاجة، بالتالي يمكننا القول بأن لعنة النفط وتحويل اقتصاد البلد إلى نظام ريعي، يجعل يد القوى تتطاول على إبقاء العراق في فوضاه دون ديمقراطية حقيقية من أجل استنزاف النفط من جهة، وكذلك يجعلنا لن نرى نهوض طبقة برجوازية تدفع إلى سياسة جديدة بحكم وضعها الاجتماعي كما هو معروف في تحليلات علم الاجتماع، وهنا، أراني عملت على تلخيص المعوقات أو المعرقلات، بشكل نظامي، عنيت بنحو بنيوي مترابط، رغم جزالة الطرح وقلة الشروح، ألا أنه يحتمل الكثير من التفاصيل الأخرى، والتي قد يرى بعضها واهمًا أنها متعارضة معهًا، مبينًا أن "الشعور بالهوية الاجتماعية، وضرورة تفعيل دور المثقف، وتنشيط مؤسسات المجتمع المدني، وتعزيز قيم الإنسانية والمواطنية، دون الانخراط في العمل الثوري أو الاصلاح بنحو مباشر، هو بالصميم من السياق النظري، الذي يعرفنا على النموذج في اولياته وآلياته، ويتيح لنا بيئة لفكر مرجعي مستقل ليس ذا دلالة ايديولوجية/اقتباسية أو انتقائية، بدلًا من أن ينظر لك خبير سياسات أمريكية أو إسرائيلية".
اقرأ/ي أيضًا: