10-سبتمبر-2019

في محرم يضج "فيسبوك" العراق بمنشورات فيها إطراء على طعام "القيمة" (Getty)

ألترا عراق ـ فريق التحرير

تضجّ مواقع التواصل الاجتماعي في كل عام عند قدوم أول أشهر السنة الهجرية، بالآراء والتقاطعات والمناكفات والصراعات الفكرية، بين المنتظرين لهذا الشهر وبين من ينتظرون انتهاءه بفارغ الصبر، ولكل منهم سببه الفكري أو الاجتماعي الخاص، لكن لا يخلو شهر محرم ـ وبحسب المدافعين عنه ـ من بعض القضايا الاجتماعية التي تجعل منه كرنفالًا شعبيًا في العراق أكثر من كونه شهرًا ذا طابع ديني حزين.

يحتوي هذا الشهر على الكثير من الأمور الاجتماعية التي تخص جميع العراقيين وليس "الشيعة" فقط، خاصة في السنوات التي ظهرت فيها مواقع التواصل الاجتماعي

الانطباع الأول المتكوّن لدى العراقيين عن شهر محرم، هو أنه شهر "لطم" وطبخ وتطبير وقطع طرق وعُطل كثيرة، ومواكب تجوب الشوارع و"ملايات" تنتقل من بيت لآخر لإقامة المجالس النسائية، ومحاضرات في الحسينيات، وعلى شاشات التلفاز، بينما يحتوي هذا الشهر على الكثير من الأمور الاجتماعية التي تخص جميع العراقيين، وليس "الشيعة" فقط، خاصة في السنوات التي ظهرت فيها مواقع التواصل الاجتماعي.

الأطفال وأبطالهم الأسطوريين

ينشأ الكثير من أبناء معتنقي التشيع على حب رموزه، المتمثلين بـ"أهل البيت" بالدرجة الأساس، وعلى قصة واقعة الطف بشكل خاص، وهو جزء من آليات الدفاع عن هوية الجماعة، حيث يوضح الآباء لأبنائهم وجهة نظرهم بقضية كربلاء بوصفها "المعيار الأول للحزن والقيم الإنسانية على حدٍ سواء"، كما يربوهم على ممارسة "الشعائر الحسينية" بحسب أعمارهم، وجعلهم يحبون الفكرة عن طريق سرد قصص الأطفال في كربلاء وتشجيعه على اتخاذ أولئك الأطفال كقدوة، فضلًا عن تعريفهم بالمواقف الكبيرة للرجال المتواجدين في القصة.

اقرأ/ي أيضًا: "أداة للنضال" تلهم الملايين حول العالم.. كيف ينظر الغرب إلى عاشوراء؟

تخلق هذه النشأة في ذهن الأطفال صورة لأبطال أسطوريين يصبحون مثلًا أعلى في الحياة على جميع الأصعدة، كما يخلق في الوقت ذاته شعورًا عميقًا بالحزن والرغبة بالعودة إلى ذلك الزمن لتقديم المساعدة، وهذا ما يتفاقم ويكبر مع الأطفال كلما تقدم بهم السن، وبالتزامن مع هذا الحزن لدى الأطفال، إلا أن شهر محرم يوجِد لهم المجال الكبير للحركة، فبعد ذهابهم مع آبائهم لمجالس الكبار أو الزيارة، تكون لديهم فرصة للخروج من المنزل مع أقرانهم للذهاب إلى المواكب القريبة، أو نصب المواكب المصغّرة الخاصة بهم، فضلًا عن ممارسة نشاطاتهم وألعابهم المعتادة، ولكن بطريقة أكثر جماعية.

"القيمة" في مواجهة الطائفية السياسية!

من الأمور الملفتة في شهر محرم هي منشورات العراقيين على مواقع التواصل الاجتماعي التي تتحدث عن انتظار "القيمة"، والبحث عن أماكن طبخها من أجل الحصول عليها، وهي من الأمور النادرة التي يُجمع عليها غالبية رواد تلك المواقع.

أثناء عملية تسمى "درخ القيمة" (Getty)

لم يكن كاوه محمد، وهو شاب كردي من كركوك يعلم أي شيء عن شهر محرم، لكن حينما جاء للدراسة في بغداد واختلط مع بعض الطلبة في سكن واحد، عرف الكثير، وصار يجيء للعاصمة في كل محرّم لكي يحظى بـ"القيمة"، يقول لـ"ألترا عراق"، "عند سكني مع الطلبة تعرفت على طقوس الشيعة وعاداتهم، ولحسن الحظ لم يكونوا متعصبين، وكانت تربطنا علاقة قوية".

أضاف محمد "كنت أسمعهم يتحدثون دائمًا عن نوع من الطعام يسمّى "القيمة"، وفهمت أنها أكلة خاصة بمحرم، وأخبروني إني لا بدّ أن أتذوقها عند قدوم محرم القادم، وبالفعل في أحد أيامه أحضروا القيمة إلى مكان سكننا المشترك على وجبة الغداء، وتذوقتها للمرة الأولى، عندها اختفت لدي فكرتي بأنهم يبالغون في وصفها وانتظارها لمدة عام كامل، وعرفت أنها تستحق تلك المبالغة"، لافتًا إلى أنه "حتى بعد تخرجي وعودتي لكركوك بقيت على تواصل مع أصدقائي وواظبت على القدوم في كل محرم لألتقي بهم، وأحصل على ما يكفي من القيمة معي لعائلتي وبعض أصدقائي في كركوك".

تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي في شهر محرم عشرات المنشورات والصور يوميًا، أغلبها فكاهية، وموضوعها هو طعام "القيمة"

في أيام محرم تجد "فيسبوك" العراق يضج بمنشورات فيها إطراء على طعام محرم الذي تطبخه المواكب، حتى صفحات الشباب الذين يقولون إن "لديهم قطيعة مع الدين"، وهو ما أكده شاب من محافظة ديالى، حيث أشار في حديثه لـ"ألترا عراق"، إلى أنني "ملحد من أصول سنية، ولكن جميع خلافاتي مع المسلمين تتوقف عند حدود القيمة ولا تتعداها"، وأضاف مازحًا "يجب أن تكون رمزًا وطنيًا يزيل آثار الطائفية السياسية".

بيّن الشاب الذي اعتذر عن الكشف عن اسمه، أنه "بغض النظر عن الانتهاكات والمضايقات التي تحدث في هذا الشهر كقطع الطرق والضوضاء وغيرها، لكن يبقى شهر محرم يمثل فلوكلورًا شعبيًا، وهو بحاجة فقط للتهذيب ليشمل الجميع، كما يجب استغلال حب الجميع لـ"القيمة" بشكل ذكي لتذويب الخلافات الاجتماعية بين الشيعة والأطراف الأخرى، واتخاذها كخطوة أولى لمحو الصورة السلبية الشائعة في الأوساط التي لا تملك احتكاكًا معهم".

اقرأ/ي أيضًا: طقوس الشيعة.. "انتقام" الذات والتوظيف السياسي

وتنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي في شهر محرم عشرات المنشورات والصور يوميًا، أغلبها فكاهية، موضوعها "القيمة"، ففلان طبخها ويدعو أصدقاءه للقدوم من أجل الحصول عليها، وهذا حصل عليها بعد عناء وانتظار، وآخر يطالب الحكومة بتوفيرها لكل الشعب العراقي، فيما توجد منشورات تقارن بين القيمة النجفية والقيمة البغدادية، وفلان يتحدث عن شعوره عندما تذوقها للمرة الأولى، وغيرها العشرات.

نصيب "العشّاق" من فسحة الحرية

لا تعترف العادات والأعراف في المجتمع العراقي "على الأغلب" بعلاقات الحب، وتستهجنها بشكل كبير كلما زادت علانيتها، ويقع اللوم دائمًا على الفتاة بسبب الطبيعة الذكورية للأعراف الاجتماعية والعشائرية، لذلك تبقى تلك العلاقات في إطار ضيّق وسرّي جهد الإمكان لتجنب المشاكل وضمان استمرارية العلاقة، وهذا ما يجعل لقاء المحبّين صعبًا وقلقًا، ما يضطرهم إلى اختلاس الوقت واللقاء بعيدًا عن الأنظار، وكلما حانت الفرصة.

في شهر محرم تزداد فرص اللقاء تلك، بسبب حرية الخروج من المنزل للشباب والفتيات على حدٍ سواء بقصد "المجالس الحسينية"، فتتم بعض اللقاءات في الشارع أو أماكن عامة، وغالبًا ما تكون لقاءات قصيرة، ولكن متكررة خلال تلك الأيام، كما ينتظر الشباب التجمعات العائلية التي تكثر في هذا الشهر لرؤية حبيباتهم في حال كُنَّ من أقاربهم، خاصة في المناطق الشعبية المكتظة.

بشكل عام، يعد هذا الموضوع من أكثر المواضيع الشائكة في المجتمع العراقي لأنه يحدد الفتاة ضمن تصنيفين لا ثالث لهما، وهما (شريفة أو عاهرة)، دون إبداء أية مرونة أو مجالًا للتفاهم، فتجد الفتاة نفسها إما منقادة بشكل تام لرغبات ذويها وعشيرتها وبيئتها ومجتمعها وعندها يتم مصادرة كل شيء يخص حياتها، وإما أن تشذ عنها، ولو بجزء بسيط، وتمارس ما تراه مناسبًا لحياتها وتجازف بكل شيء، إما أن يبقى كل شيء سرّي، أو تصبح "منبوذة وعاهرة" إذا افتضح أمرها.

الليلة الأكثر اجتماعيةً في العام

في مدينة الشطرة التابعة لمحافظة ذي قار، هنالك عادة غريبة جدًا تحدث كل عام في ليلة العاشر من محرم لدى بعض العوائل، حيث يسمح الآباء لأبنائهم بالتدخين، بغض النظر عن أعمارهم، ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، ولكن الأب يقوم بنفسه بتقديم السجائر لهم ليدخنوا، فيما يعود لمنعهم وتحذيرهم من مخاطر التدخين في اليوم التالي.

ربما لا يكون هذا الأمر هو الأكثر طرفة وغرابة في هذه الليلة، فهنالك بعض الاعتقادات القديمة السائدة التي تقول إن ارتداء الملابس باللون الأحمر، أو تناول "العلكة والكرزات" تعتبر من المحرمات في يوم العاشر، وعند البحث عن أصل هذه الاعتقادات لا تجد لها أي أصل، سوى أنها من ضمن التراث الشعبي "الريفي".

تعتبر ليلة العاشر من محرّم اجتماعية أكثر من كونها ذات طابع ديني، حيث يُجمع المجتمعون إلى إنها أكثر ليلة تحدث فيها مواقف مضحكة رغم أنها ليلة حزينة

كما تجتمع النساء في ليلة العاشر من محرم في مجالس عزاء مطولة ومتعددة تبدأ بعد صلاة المغرب وتنتهي مع صلاة فجر اليوم التالي، فضلًا عن تجمع الأصدقاء والأقارب في هذه الليلة، بعضهم لممارسة الطقوس الدينية الخاصة بها، وبعضهم الآخر من أجل السهر والحديث، وأحيانًا للعب العاب مختلفة، وهذا ما يجعلها ليلة اجتماعية أكثر من كونها ذات طابع ديني، حيث يُجمع المجتمعون إلى إنها أكثر ليلة تحدث فيها مواقف مضحكة رغم أنها ليلة حزينة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

طقوس عاشوراء.. الاكتفاء بـ"اللطم" ونسيان الحقوق!

ماذا فعل "شيعة السلطة"؟