رغم أنه تخرج من كلية الهندسة في جامعة بغداد إلا أن الروائي والسينمائي العراقي مرتضى كزار (1982) ذهب باتجاه الفن والكتابة، ليخلق ذلك الحوار بين مفردات العلم وبين فضاءات الفنون.
الروايات التي أصدرها حتى الآن هي: "مكنسة الجنة" و"السيد أصغر أكبر"، و"كومبيوتانيا صفر واحد". أما في السينما فلديه فيلم روائي طويل بعنوان "الكعب الذي رأى"، وآخر روائي قصير هو "رب اغفر لنديمة". بالإضافة إلى كونه رسام كاريكاتير.
السطور التالية ما هي إلا خلاصة بعض الوقت مع ضيف الترا صوت.
- تبدو متشعبًا، وكأنك تريد الإمساك، أو الولوج والتجريب، بكلِّ شيء له علاقة بالفن والأدب، سينما، رسم، مقال، رواية، كيف تتعامل مع كل هذا في يومياتك، وأنت مشغول بعمل شاق هو هندسة النفط، خاصّة وأن الكتّاب في شكوى من ضيق الوقت بشكل مستمر؟
كزار: حينما أكتب عملًا سرديًا أحرسه جيدًا لأن الحديث عنه سيخّرب اكتماله
أظنّ أن ما يجمع هذه الاهتمامات هو حسن الجوار والتقارب لا التناقض أو حب الاستيلاء، وأن ينال المرء "من كل قدر مغرفة!"، كما يعبر المثل. عملي اليومي هو ممارسة نوع من الرياضيات المتقدمة يسمونها النمذجة أو المحاكاة الرقمية لأشياء فيزيائية، أدرّس ذلك وأمارسه وأكتب فيه، تبدو الرياضيات من وجهة نظر علم الجمال الفيثاغوري مثل الفن من ناحية التناسق والانتظام بشكل ما، وهي في النهاية تجليات لتفكير ما، الفنون كلها محاولات لتمثيل فكرة ما، وكلنا نبتغي طرائق معينة للتعبير عن ما نريده ونؤمن به، ومهما تعددت طرائق التعبير التي امتهنها شخص ما فهي في النهاية تخدم أغراضه السليمة أو السلبية.
بعبارة أخرى، نحن نستجيب لحساسيات كثيرة حولنا وداخل يومياتنا المتوترة، وأي أداة تخطر في البال وتنفع للصد والدفاع والتوضيح وتحسين العالم فأهلًا بها مهما كان جنس الفن الذي ترتديه. لا أفكر بتعدد الاهتمامات ذلك ولا أعتني به كثيرًا، أترك الأمر عادة للاستمتاع الشخصي، ألهو مع ذلك "الجني الأنيس" حسب التعبير الهيجلي للجمال وأفرز ما هو صالح للتذوق من قبل الآخرين، فهناك أشياء كثيرة أصنعها وأحتفظ بها لنفسي وداخل مشغلي الخاص. لكنني أيضًا، وكما الآخرين، أعاني من شبح الوقت، لا أزعم أني حللت المشكلة، إنما أنجح أحيانًا في التحايل عليها.
اقرأ/ي أيضًا: محمد بن جلّول.. يضع الليل على طاولته
- أيضًا، أنت دائمًا تحيط كلّ عمل في هذه المجالات بسريّة تامّة حتى خروجه إلى العلن، لِمَ هذه العادة؟ أنت تعرف أن غالبية الكتَّاب اليوم ينشغلون بالحديث عن أعمالهم القادمة وطقوسهم في العمل عليها.
لا ألتفت إلى ذلك بصراحة، حينما أكتب عملًا سرديًا أحرسه جيدًا لأن الحديث عنه سيخّرب اكتماله، حينما أعود إلى العمل أشعر بأن من حدثتهم عنه يحدقّون فيه أو يطلون برؤوسهم من داخله، تعودتُ، والكتابة عادة، أن أستغرق وقتًا في طهي الشخصيات وأتركها تتطور مع زمن الكتابة الطويل، يشبه الأمر ما يفعله بعض السينمائيين الإنجليز حينما يبحثون عن الممثل قبل الشخصية، ثم يوكلون للممثل مهمة المساعدة في إنتاج الشخصية المتخيلة وحكايتها، الأمر معقد وشديد الخصوصية في ذات الوقت، أنتمي لهذا النوع من الكتابة التي لا تصنع أخيارًا ولا أشرارًا، لا أبطالًا ولا شخصيات هامشية، هو نوع يجرّب تقديم الحياة كما هي. أو هكذا تبدو على الأقل.
كل ذلك لا يمكن مشاركته مع الآخرين، قد يكون هذا مفيدًا في الدعاية التي أهملها عادة وأشدها على النص وحده. الحديث عن ما تكتب ومتى تنتهي وماذا حدث لفلان أو فلانة في الرواية، وهل تزوجت عفاف أو عادت فتحية من بيت أم صبرية، الثرثرة في كل ذلك في مواقع التواصل الاجتماعي هو خيار خاص والكتّاب يتنوعون ويتقاطعون في أمزجتهم وطقوسهم الكتابية، بعضهم يمّل من نصه ويستوحش الكتابة ويتسلى بالآخرين ويقتبس منهم عزمًا اصطناعيًا وبعضهم يشرع نافذته وهو منشغل بحياكة قصته فتراه قد نسج داخلها كل ما يسمعه ويمر عليه، فعليك أن تكون حذرًا، فقد تجد نفسك مكتوبًا في الحكاية لو ألقيت عليها تحية.
- لنعد إلى بدايتك، كان عملك الأول روائيًا، وهذا بدا متجاوزًا لتقليد عراقي ينتقل الكاتب فيه من القصة أو الشِّعر إلى الرواية.. هل جاء هذا القرار عمدًا؟
لم أكن ملتحقًا بالوسط الأدبي أو عارفًا بالفنون الغالبة داخله، لقد حصل دخولي وتعرفي على الحياة الأدبية العراقية حديثًا، تعرّفت على السرد وحدي وداخل البيت وأنا أنظر للعالم من ثقب الباب كما يفعل أحد أبطال كولن ولسن. كتبتُ الشعر في طفولتي كما يفعل الكثير من الكتّاب ولا أعرف لماذا تخليت عنه، أؤمن طبعًا بأن الشعر الداخلي هو مركب مهم داخل مزيج أي نوع فني، في الكتابة والسينما.
كانت القصة العراقية تشبه البنية الحاملة للاحتجاج السرّاني أو المرمّز في الفترة التي كنت فيها مراهقًا، كان ذلك يحدث مع القصة أكثر من الشعر، بمعنى، القصة وعبر نصوصها المنشورة في الصحف والدوريات العراقية ومن خلال جماعاتها الأدبية وأنديتها، نجحت في مشاكسة الشعر وسحبت تلك الخاصية السياسية منه، واستطاعت تمرير شفرة الاعتراض على السلطة وبوضوح، قد يكون ذلك ما نبهني وأشعل بداخلي حماسةً تجاهها كمراهق خلف الباب!.
- "مكنسة الجنة" تصنفها في حواراتك على أنها روايتك الأولى، إلا أن هناك عملًا كان قد سبقها، ولا تأتي على ذكره لم ذلك؟
تقصد "صفر واحد-كمبيوتوبيا"، لا أذكرها لأني تحدثت عنها طويلًا في حوارات كثيرة ولم يعد يسألني عنها أحد، سوى بعض الرسائل الأكاديمية المعنية بما يسمونه بالأدب الرقمي، لعل آخرها دراسة دكتوراه بجامعة القاهرة، التي استعملتها كمثال لأولى التجارب العربية في ذلك النوع. لم تعد تطبع أيضًا، أفكر جادًا بكتابتها مرة ثانية وتخليصها من آثار الكتابة الطفولية.
الرواية ممارسة أدبية نمت وتربت في أحضان اللامبالاة تجاه المقدس
- بين "مكنسة الجنة" و"السيد أصغر أكبر" هناك نبش في التاريخ.. تبدو حريصًا في العودة ومنح الشخصيات أبعادًا وسلالات.. لم تعتقد أن العودة إلى التاريخ مهمّة؟
جاء لسان نظمة ومعينة وواحدية في رواية "السيد أصغر أكبر" أن الناس لا يهمهم التفكير بالمستقبل قدر اهتمامهم بتصحيح الماضي. مع ذلك، فأنا أعتقد بأن الرواية كفن هي ضرب من التأريخ. ننتمي في الغالب إلى طريقة "ماضوية" في التفكير والماضي يسرح ويمرح دائمًا في أحكامنا وقراراتنا وتذوقنا للأشياء.
قرر "السيد أصغر أكبر" وهو "نسّابة خيول" أن يشتغل في أنساب العشائر واستثمر لأجل ذلك كل ما يمكنه من دهاء وخبرة. لم يكن شخصية تاريخية، لم يوجد على الإطلاق، لكنه مقترح للتفكير بالأوليات والمناطقيات والعنصريات التي تُسبغ أحيانًا على فرد ما، ليجدها تسبقه في أي وادٍ يحل فيه. لم تكن السلالات تأثيثًا فائضًا للشخصية، هي بالأحرى ذم للتأثيث المسبق الذي نضعه على الأشخاص.
اقرأ/ي أيضًا: موديانو والنافذة التي تشبه المقصلة
- وأيضًا هناك ملامح واضحة في جميع أعمالك، في الكتابة والفنون الأخرى، على كسر التابوهات، في وقت يجري الحديث فيه عن الواقع تجاوز هذه التابوهات.
الأنواع التي اشتغل فيها تحمل في مضمونها لامبالاة للممنوعات الثقافية والاجتماعية، ليست أعمالي تحديدًا، الجنس الفني كالرواية مثلًا، وبشكل عام، هو ممارسة أدبية نمت وتربت في أحضان اللامبالاة تجاه المقدس. وهي لامبالاة منظمة ومحسوبة. لذلك لا أظن بأن التابوهات تكسر كمقصد رئيسي، بل يأتي الأمر كعارض جانبي لمهمة يؤديها النص أو تعرضها الصورة.
لا أرى بأن الواقع قد تجاوز ذلك، وإن كان قد تجاوزها فهذا بفعل المجهودات الفنية والتربية المتأنية التي تقوم بها الفنون إزاء كل ما حولها. وما كتبته يُتوقع أن يُقرأ مقرونًا بفترته الزمنية التي نشر فيها وصدر. وهل كان الواقع متجاوزًا لهذا أم لا؟.
أحيانًا، يصبح سؤال كسر التابوهات شارة تجارية للعمل الأدبي وهذا أسوأ ما يحدث له. فقد تنعدم الرؤية الواضحة بعد أن تستولي على النظر عشرات الأعمال مع أوراقها النقدية التي تدعي وتشهد بحوادث كسر التابوهات! ويصبح لدينا فائض بالكاسرات بلا "مكسورة" واحدة!
اقرأ/ي أيضًا: