17-مارس-2019

لا يتخيل الحكّام العرب أنفسهم خارج السلطة (تويتر)

كل الأنظمة التي تعاقبت على الوطن العربي اتفقت على تجاهل بناء الدولة، وكأنه "قدر" لأنظمتنا العربية أن تعادي الدولة وتضخّم من مفعول السلطة إلى الحد الذي تتلاشى فيه السلطات الثلاث بيد "القائد الضرورة". من النادر أن شهد التاريخ السياسي العربي خضوع أحد القادة العرب لسلطة القانون، وكأنما السلطات الثلاث "تشريعية، تنفيذية، قضائية"، تشعره بالوسواس وتجرح كرامته الشخصية، فلا يصح للرعايا محاكمة وليّ نعتمهم على الإطلاق؛ فهو الخليفة، الإمبراطور، الوالي، الزعيم، الأب، الحائز على صك الغفران.

تعادي أنظمتنا العربية مفهوم "الدولة" وتضخم من مفعول السلطة إلى الحد الذي تتلاشى فيه السلطات الثلاث بيد "القائد الضرورة" 

القائد العربي وفيًا لذاكرته الاستبدادية ولا يوجد في ضميره مفهوم "مواطن" بقدر ما يرى الناس "رعايا"، ويعزّ عليه إدراك مفهوم "المجتمع" القائم على تعاقدات عقلانية، بقدر ما يسوقه حنين الخلافة النظر نحو الناس على أنّهم "جماعات" تربطهم علاقات مذهبية وقبلية. وهم في نهاية المطاف "رعايا" عنده يغدق عليهم ما يشاء من العطايا، كلٌ حسب ولاءه لشخص القائد. وبخلافه يحل عليه العذاب الأليم.

يٌنقَل عن صدام حسين أنه كان يتندر على العراقيين في إحدى زياراته لمناطق العراق،  كان يذكّرهم بأنه ألبَسَهم الأحذية بعد أن كانوا عراة. وفي زيارٍة لمدينة الصدر "الثورة سابقًا"، أوضح، للقائم مقام آنذاك، قصة مفادها: في فترة السبعينات حينما زرنا مدينتكم، وجدناها غارقة في الوحل، وتنتشر في أزقتكم سواقي الماء الآسن، فقلنا لكم في وقتها، إن كنتم تقبلون بهذا الوضع فنحن لا نقبل إطلاقًا. ظل القائم مقام يهز رأسه مؤيدًا وعيناه شاخصةً نحو الأرض!. هكذا يُختزل البلد: دولته ومواطنوه وتاريخه في شخص القائد، وما إن يزول هذا القائد يورث لنا ويلات لا تنسى، ويغدو البلد ومؤسساته أثُر بعد عين. فبسقوط رأس الهرم يتهاوى الهرم كله دفعًة واحدًة.

اقرأ/ي أيضًا: الدولة "المفتعلة".. سيرك إقطاع العراق السياسي

ماذا ينتج بلد قائم على العلاقات الهرمية غير الاستبداد والقسوة والتلاعب بمقدرات البلد؟. مالم تكن دولة واضحة المعالم، وتقام على أساس ديمقراطي، ويكون فيها الفصل بين السلطات، وتبادل السلطة بالطرق السلمية، وتشريع القوانين التي تحمي الحريات، وتتخذ من العدالة الاجتماعية ركيزة صلبة، فلا وجود لأي تداول حقيقي للسلطة، وإنما ضحك على الذقون. بخلاف ذلك ستغدو مؤسسات الدولة عبارة عن ثكنة تُطبع عليها ماركة " السيد الرئيس" ويتكثف تاريخ البلد ويتم اختزاله بشخص واحد، وتغدو الانتخابات نكتة يتداولها الناس في المقاهي.

هذا ما فعله عبدالفتاح السيسي في مصر؛ فالرجل لم يجد منافسًا غير شخصه يخوض معه الانتخابات " الديمقراطية" في مصر، ويبدو أن السيسي كان يتحاور مع نفسه أمام المرآة وأقنعها أنه الخصم والحكم في ذات الوقت. وهكذا تذهب مصر وتاريخها كهدية "رخيصة" بيد السيسي، وتتحول رئاسته إلى منحة أبدية لا يفصمها سوى القبر. هذا هو "زعيم" مصر الجديد، الذي تباكى عليه بعض الفنانين المصريين لينصبوه زعيمًا أبديًا على رقاب المساكين، إذ لا يهم الجوع والحرمان والحياة العدمية التي يكابدها المصريون، ما يهم أن هؤلاء الفنانين ينتجون المسلسلات، وجيش المرتزقة الإعلاميين يتمتعون برفاه العيش برعاية وليّ نعمتهم، وماعدا ذلك غير مهم على الإطلاق ما يحدث من عذاب للمصرين. ما يهم هو السيسي ونكاته الباردة وتلاعبه بأعصاب المصريين من على شاشات التلفزيون.

ذات المسرحية تجدد فصولها في السودان؛ فالرئيس السوداني عمر البشير لا تهمه عذابات الشعب السوداني واقتصاده المتردي وارتفاع الأسعار، كما لا يهمه حتى لو انفصل نصف السودان. حتى أن الرجل اكتشف لنا "حكمة" في الاحتجاجات الأخيرة مفادها، إن التغيير لا يتم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. صحيح "يا سليل الآلهة"، لكن لم تخبرنا كيفية التغيير وأنت لا تزال ملتصقًا على الكرسي قرابة ثلاثة عقود، ولا يمكن إزالتك لا بالطرق السلمية ولا حتى بالعنف!. صحيح أن مواقع التواصل الاجتماعي لا تغير الأنظمة العربية، التي حازت مالم يحزه الأنبياء والرسل من الامتيازات والثروات، لكن لم تخبرنا بكيفية التغيير أيها "الزعيم"، لأنك ببساطة شديدة، مشغول برقصتك الشهيرة وهراوتك التي تهتز يمينًا وشمالًا، ولا زالت فصول مسرحيتك مستمرة إلى أمد غير معلوم.

البلد الذي يقوم على العلاقات الهرمية سينتج الاستبداد والقسوة والتلاعب بالمقدرات وستغدو مؤسسات الدولة فيه عبارة عن ثكنة تطبع عليها ماركة "السيد الرئيس" 

إن طغيان هؤلاء القادة ينسيهم حتى بشريتهم! فيتحولون إلى أنصاف آلهة، يذكر  الكاتب جعفر البكلي، عن الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، أنه كان  يصرّح بأنه في مقام النبي محمد، وأنه خامس خمسة عظماء أنجبتهم أفريقيا الشمالية عبر تاريخها: حنبعل، ويوغرطة "الملك النوميدي الذي قاد المقاومة ضد الرومان"، والقديس أوغسطين، وابن خلدون، وأصيب الرجل بجنون العظمة، حتى ملأت تماثيله كل مكان، وأصبح الرجل في أواخر عمره مهووسًا بالخلود. يقول البكلي "ولقد أرسل عام 1973، وزير خارجيته محمد المصمودي إلى ليونيد بريجنيف، طالبًا من الزعيم السوفييتي أن يرسل إليه خبراء في التحنيط. وتعجب بريجنيف من هذا الطلب، فأسرّ له المصمودي بأن بورقيبة يريد من أولئك الخبراء أن يحنّطوا جثمانه إذا مات، ويحفظوا جسده من التحلل، لكي يُعرض أمام الملأ، كما هو حال لينين. ورمق بريجنيف وزير خارجية تونس باستغراب، ثم قال له متهكمًا: "وهل يظن رئيسك بورقيبة أنه ولينين سواء؟!".

هذه مسرحيتنا بإيجاز شديد، والتي لم تنتهِ فصولها حتى هذه اللحظة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الهيمنة على الطريقة العراقية.. قرصنة من الداخل!

العراق في المؤشر العربي.. إرث الاستبداد الثقيل