08-يوليو-2020

لا توجد وحدة مصير تجمع العراقيين هذه الأيام مثلما تجمعهم وحدة الموت (فيسبوك)

كانت البدايات الأولى في مسرح العالم الافتراضي تتسم بطابع الضحك والنسيان، السخرية والجدية المفتعلة، التهكمات المحببة، الغزليات الجامحة. إنه مسرح كبير للأمنيات المؤَجّلَة.. لقد كان زمن العالم الافتراضي الأول هو زمن "النهايات السعيدة": أن تكتب ما ترغب ومن ثم تغط بالضحك أو النوم، أو تنتظر تعليقات المديح والثناء التي ترمم الذات الممزقة بشجون الواقع. إنها "ملهاة" من نوع آخر، لا يمكن حصرها في بطل واحد، بل كانت مسرحًا يتدافع عليه الأبطال ولهم كل يوم أحجية وقصة تروي رغباتهم الدفينة ومتعهم المُتَخَيّلَة.

كانت خطوة السلطة الأولى في العراق هي ملاحقة كل محاولات التفكير، ملاحقة كل ما هو ممكن في العالم الافتراضي بشكل عام

كلنا نتذكر هذه البدايات لمواقع التواصل الاجتماعي، كانت تحفل بكل أشكال "الترويح عن النفس". لقد وصلت الأخيلة الرومانسية حدًا لم يعد التفريق بين الجدي والهزلي أمر ممكن. لقد انفتح باب الحلم على مصراعيه وتوسدت الناس أرضية العالم الأزرق لتحلم بما تتمناه؛ التحايا اللطيفة، النصوص الشعرية المفرطة في الحب، تبادل العلاقات بين الجنسين، محاولات مستمّرة لتقليد المثقف، وبذات الوقت محاولات محمومة لنقد المثقف! كوميديا ساحرة ومجنونة ومتمردة على خطوط الواقع الحمراء.

اقرأ/ي أيضًا: نزيف الدماء "السلبية" واغتيال الديمقراطية

وعلى هذا المنوال تولّدت علاقات اجتماعية جديدة أفرزت لنا جماعات تحلم بكل ما هو ممكن. لقد أسقط الكثير من رواد هذه المواقع صفات مثالية على ذواتهم حتى أنّهم، بشكلٍ وبآخر، أصبحوا مصدر نفور لبعض المثقفين. بل أكثر من ذلك، شهدت السنين الأخيرة  موجة "هيستيرية" لطبع المجاميع الشعرية والروايات، يجمع عدد ليس بالقليل على أنها خالية من الرصانة والجودة. لكن كل هذا لم يوقف عجلة "الملهاة" عن تدفقها المستمر.

لم تقتصر هذه المواقع على هذه الظاهرة فحسب، بل ظهر جيل جديد من الشباب يتخّذ من "المناهج" العلمية، والإلحاد، الذي يتسم بعض منه بالحماسة العقائدية، ومهاجمة الدين ورجاله، وعقدوا بخصوص هذا الشأن نقاشات محمومة بين الإلحاد والدين. وجماعات أخرى تكفلّت بالترويج للعلمانية وإلغاء الدين من مسرح الحياة الاجتماعية! حتى أن الكثير من المدونات الفيسبوكية لم يشغلها شيء قدر انشغالها بـ"تنوير" الناس وهدايتهم نحو صراط الحق والحقيقة.

 ولكي تكتمل حركة "التنوير"، في العراق خصوصًا، انبثقت حركة جديدة، من رحم الحركات الافتراضية الثائرة، تطالب بحقوق النساء وحقوق "الفمنست" وحقوق المثليين. ولم تعد هذه "الحركة الاجتماعية" تقبل بالقليل بعد أن اتسعت دائرة اتباعها في العالم الافتراضي؛ ما عليك سوى كتابة خاطرة فسيمطرك المتابعون بوابل من الإعجابات وعندها ستهاجمك أشكال من النشوة والإعجاب بالذات لا يمكن الحصول عليها في الواقع المفرط بجديته والمعقد بشروطه. كل شيء متاح، والجامع الأكبر لهذه المحاولات لا يخرج من إطار المتعة والتسلية حتى لو لم يصرحوا بها. إنه عالم المرح المفقود في الواقع، المرح الذي يحاول تهيئة نفسه لمعانقة الواقع.

 إن هذه المحاولات، على الرغم من جموحها الرومانسي، وتجاهلها شروط الواقع المعقدة للغاية، غير أنها تنطوي على دوافع بريئة خالية من الشرور؛ فهم لم يتسببوا بقتل أحد، ولم يساهموا بزيادة عدد الأيتام والأرامل، ولم يتكالبوا كما الضباع، على ثروات البلد الهائلة، ولم يسهموا في زرع الفرقة الطائفية. لقد كانوا، ببساطة شديدة، يحلمون بعالم أفضل، عالم ممكن يغدو بديلًا عن هذا العالم الضروري الذي رسمته السلطة، وتحاول جرّ الناس إليه ليفكروا من خلاله. العالم الذي حلمت به هذه الجموع والتكتلات  الافتراضية، هو عالم يغدو فيه الشاب آمنًا مطمئنًا على حياته لكي يشرع بتحقيق أحلامه الممكنة.

 أفرزت انتفاضة تشرين جيلًا من الشباب الموهوب. إذ لا زالت جدران الانفاق شاهدة على خطواتهم البريئة وهم يترجمون معاناة الحياة من خلال رسومهم

لكن كيف للسلطة أن ترى جدار الضرورات والحتميات يتهاوى أمامها، حتى لو كان بصورة افتراضية، وهي العدو الأبدي لكل أشكال الإمكان والاختلاف؟ لذا كانت الخطوة الأولى هي ملاحقة كل محاولات التفكير، ملاحقة كل ما هو ممكن في العالم الافتراضي بشكل عام، ملاحقة كل محاولة لمعانقة الحياة، ذلك أن هذا العناق مكلف للغاية ويضع ثوابت السلطة تحت مسائلات تفضي في النهاية للتفكير عن قوة الحياة الحقيقية؛ تلك القوة التي تجترح أفق جديد وتدفق جديد لحياة لا زالت في طور الحلم. لذلك شمّرت السلطة عن ساعديها من خلال طرح أحمالها الثقيلة في العالم الافتراضي وهي تجنّد مئات المدونين لمطاردة أحلام الشباب وتزييف الحقائق للحفاظ على هويتها الصلبة.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين: البحث عن ممكن

لم تكف السلطة عن مطاردة الخارجين عن هويتها، بل توزعت جحافلها بين جنود يكافحون ليل نهار في العالم الافتراضي لجعل الحياة ساكنة وكئيبة ومملة، وجنود مهمتهم أزهاق أرواح الشباب وهم يتأملون عالم ممكن. كانت مهمتهم الرئيسية في العالم الافتراضي هو اغتيال الأحلام عن طريق السير الحثيث لتكثيف أساطير السلطة، أما في الواقع فهو اغتيال الأرواح وسحقها لكي تكتمل دائرة الوت بشقيه الافتراضي والحقيقي.

إن انتفاضة تشرين (وهذه المرة انتفاضة واقعية صرف) أفرزت جيلًا من الشباب الموهوب. إذ لا زالت جدران الانفاق شاهدة على خطواتهم البريئة وهم يترجمون معاناة الحياة من خلال رسومهم التي غطت على الجدران الصدئة. لقد كشفت هذه الانتفاضة البريئة علاقات تضامنية بين جيل الشباب، علاقات لا تفكر من خلال ضروريات السلطة، بل تفكر من خلال إمكانيات جديدة: محاولات كانت تحلم بترجمة الأحلام إلى صلب الواقع، وتحاول تجسيد الملهاة في صلب الواقع بعد ان كانت حكرًا افتراضيًا صرف، غير أن نهايتها كانت دمًا ودموعًا.

من هنا بدأت المأساة! لقد تحول العالم الافتراضي، من عالم يضج بالأخيلة والأحلام البريئة، والمتنفس الوحيد لشباب لم يعد لهم مكان يحتويهم في هذا البلد، فتحول العالم الأزرق إلى عالم تحتشد فيه اللافتات السوداء. تحول هذا العالم الافتراضي إلى مجالس عزاء! لا يمكنك أن تطالع هذا العالم إلا وتجد عبارة "ماتت أمي.. مات أبي.. مات أخي".. لم تعد سوق الضحكات والتهكمات و"التحشيشات" رائجة هذه الأيام؛ فرائحة الموت تفوح من كل مدونات العالم الأزرق، لا بل لم يعد عالمًا أرزق، بل تحول إلى عالم أحمر مشبع بالدماء! كما لو أنه يصرخ، من خلال مدوناته الحزينة: وداعًا للملهاة!

لم تتوقف قافلة الموت يومًا ما، سواء قبل تأسيس العالم الافتراضي وبعده، غير أن الناس لم تكن بحاجة إلى شغل الآخرين بمواساتهم؛ فالفيسبوك مكانًا للاستجمام، مسرح تقتصر عروضه على متع الحياة الافتراضية، وقتل الفراغ والهروب من فزع الواقع وكوابيسه المرعبة. لكن، وبقدرة قادر، كف الناس عن الحلم، وقرروا أن يغادروا زمن الملهاة ويحتضنوا هذه المرة زمن المأساة.. لا توجد وحدة مصير تجمع العراقيين هذه الأيام مثلما تجمعهم وحدة الموت. ربما وجدوا التضامن الأنسب إلى واقعهم، وهو الكف عن الحلم والانشغال بمجالس العزاء التي يضج بها العالم الافتراضي هذه الأيام. مسرحية تكثف كل صنوف المأساة في لون واحد: إنه لون الموت الذي وجد فيه العراقيون سلوتهم الوحيدة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الموت والسلطة

الخوف من التغيير