إن العقيدة هي شر ما يملكه أهل العلم، وهي الرقيب الداخلي الذي لا يقل سوءًا عن الرقيب الرسمي. هادي العلوي
ثمّة أشياء تثير حساسيتي ومنها، تلك المحاولات الصبيانية المدفوعة بالتميّز الفارغ، وتسعى جاهدة لحصر التعصّب والتخلف السياسي والاجتماعي بفئة دون أخرى. لذلك نعثر على عينات غريبة تقرأ الحداثة الغربية، على سبيل المثال، وأسباب تقدمها وازدهارها بعامل واحد لا غير. كما لو أنها تحاول إقناعنا أن الغرب الأوروبي وصل إلى ما وصل إليه بمعزل عن الحملات الاستعمارية. وعلى هذا المنوال يمكن القول إن حركة الحداثة الغربية الهائلة في كوم واستعمار البلدان وسرقة ثرواتها في كوم آخر. بمعنى آخر، هذا التقدم العظيم حصل عن طريق مجموعة من المتنورين طيبي النوايا، ولم يكن لاستعمار الشعوب ونهب ثرواها دور جوهري في تقدم الغرب. فالنتيجة "المنطقية" التي يمكن استخلاصها من هذا التفكير الأحادي، أن عوامل تقدم الغرب لا علاقة لها بالاستعمار، فسواء حدث هذا الأخير أم لم يحدث سيأخذ التقدم مساره بخطوات حثيثة.
سواء كنّا يساريين أو قوميين أو إسلاميين، فمعجمنا السياسي واحد؛ ميليشيات مسلحة، وقمع الخصوم بالحديد والنار، وتضخيم السلطة على حساب الدولة
بنفس الطريقة، وبذات الأدوات "المنطقية"، تستنتج هذه العيّنات، أن أسباب الخراب في منطقتنا يعززها عامل واحد بالتحديد، وهو التعصب الديني والمذهبي، ولمجرد أن نتخلّى عن الانتماء للدين، ستنتفي شروط التعصب، وستقذف الأرض خيراتها، وتمطر السماء جواهرها الثمينة. معلوم أن ما يسمّى بحركات الإسلام السياسي لا شأن لها بالأسئلة الكبرى ذات الصلة بعوامل التقدم؛ فنحن نتجرع السم الزعاف في لحظتنا الحاضرة نتيجة لسياساتها المتخلفة. لكن رمي التخلف في منطقتنا في سلّة الإسلام السياسي، سيحيلنا إلى نتيجة مغلوطة وهي كالتالي: أن ماضينا السياسي، حين كان يضج بالأفكار اليسارية والقومية، هو ماضٍ مستنير! بعبارة أخرى، لو قُدّر للحزب الشيوعي العراقي، وباقي الأحزاب العراقية التي ترفع لواء "العَلمانية" أن تتولى زمام الحكم، سنأكل المنّ والسلوى. غير أن واقع الأحداث يكذّب هذا الحقيقة. فسواء كنّا يساريين أو قوميين أو إسلاميين، فمعجمنا السياسي واحد؛ ميليشيات مسلحة، وقمع الخصوم بالحديد والنار، وتضخيم السلطة على حساب الدولة، ثم تنتهي بكارثة مروّعة، وتنتهي معها مؤسسات الدولة، وتنتصر قيم الاستبداد، والكراهية، وإلغاء الآخر.
اقرأ/ي أيضًا: من العقيدة إلى السياسة
إن أحد العوامل المعلومة للقاصي والداني، هي العامل الخارجي، ودوره الذي لا يخفى بإحالة مشرقنا العربي إلى حطام. فقد بات العامل الخارجي معلوم. لكن بودي هنا أن أسلط الضوء على العامل الداخلي، وأعني به بنية التفكير التي يعاني منها الكثير من العراقيين عمومًا، وهي بنية تفكير يشترك فيها المتدين وغيره على حدٍ سواء، أللهم إلّا من حيث الدرجة. وهذه الأخيرة تتضخم وتبرز بوضوح كلما اقتربنا من السلطة. بمعنى حتى لو كنّا مختلفين بطرق التعصب، لكن سرعان ما نغدو وحوشًا كاسرة حين يكون لنا دورًا رياديًا في السلطة؛ إذ سرعان ما يتحوّل المظلوم إلى ظالم، والديمقراطي إلى دكتاتور، والحمل الوديع إلى قاتل محترف. ثمّة فكرة عالقة في ذهن الكثير، وهي الفكرة التي استشهد بها عزمي بشارة في أحد كتبه استنادًا إلى بعض الباحثين، وهي أن "الإسلام إما خير مطلق أوشر مطلق"، وهي ما أطلق عليها "أيديولوجيا الشطط". ولهذه الفكرة تطبيقات كثيرة في ذاكرة بعض العراقيين، ومنها، أن "العَلمانيين" خير مطلق، والإسلاميين شر مطلق، وهم بهذا يستبعدون الشروط الذاتية والموضوعية التي تتحكم بواقعنا السياسي والاجتماعي. هكذا وبتبسيط غريب، تغدو كل عوامل التخلّف مرتبطة بثنائية الإسلاميين والعلمانيين، لمجرد أن تستبدل الثاني بالأول ستنتهي مشاكلنا!
نحن العراقيين، وعلى نحو الإجمال، لو أحببنا شاعرًا أدخلناه في زمرة الملائكة والقديسين، ولو تبنينا فكرة تغدو بمرور الوقت بمنزلة الكتاب المقدس. (جرّب أن تنتقد شاعرًا كبيرًا في العراق فستعرف حرية التفكير والتعبير على أصولها! ولا داعي أن أذكرك بنقد شيخ العشيرة أو الرمز المذهبي، فهذا معلوم لديك وتحفظه عن ظهر قلب!) أن الميل العقائدي عند العراقيين لا ينحصر عند أهل المذهب الديني، بل يتعداه إلى باقي الشرائح الاجتماعية والمهتمين بالشأن السياسي (يمكن وصف "العلمانيين" في العراق بأنهم تطبيق مثالي لأي مسخرة يمكن تصورها) لكن بكيفيات ودرجات مختلفة. وربما تبدو الظاهرة التالية لا تخلو من طرافة، وهي ظاهرة استبدال التعصب بتعصب آخر. كل ما في الأمر: أن الجهات المعارضة، أو التي تدعي أنها متميزة عن السلطة من حيث السلوك والتفكير، سرعات ما تتحول إلى وحوش كاسرة حينما تمسك زمام السلطة. أذهب إلى حوار الكثير من الشرائح الاجتماعية، وخصوصًا المهتمة بالعمل السياسي، لكي تخبرك أن ذاكرة التعصب لدى شرائح اجتماعية ليست بالقليلة، هي المشترك الوحيد الذي "يجمعنا" كعراقيين.
اقرأ/ي أيضًا: