كانت الورقة البيضاء الموعودة من الحكومة هي الشرط الأساس لمجلس النواب للموافقة على قانون الاقتراض الذي يهدف إلى تمويل العجز المالي الناتج من انهيار أسعار النفط العالمي وتفشي فيروس كورونا، ومؤخرًا، كشفت الحكومة النقاب عن الورقة حين أرسلتها للمجلس.
حملت الورقة البيضاء هدفين أساسيين، الأول جذري لوقف نزيف وعجز الموازنة، والثانية يضع الاقتصاد والموازنة على مسار مستدام
قسمت الورقة البيضاء أولوياتها الى خمسة محاور، الأول هو تحقيق الاستقرار المالي المستدام، والثاني تحقيق إصلاحات كلية تهدف الى توفير بدائل اقتصادية استنادا الى القطاعات المنتجة، والثالث تحسين البنى التحتية الأساسية لتوسيع قاعدة الاقتصاد وتنويعه، والرابع توفير الخدمات الأساسية وترشيد الرعاية الاجتماعية مع إعطاء الأولوية للشرائح الفقيرة وحمايتها أثناء عملية الإصلاح، والمحور الخامس هو تطوير الحوكمة والبيئة القانونية والإدارية بهدف اصلاح المؤسسات الأساسية في تطبيق الإصلاحات.
اقرأ/ي أيضًا: تفاصيل مهولة تكشفها "الورقة البيضاء": نفقات الرواتب ارتفعت 400%
حملت الورقة هدفين أساسيين، الأول جذري لوقف نزيف وعجز الموازنة، والثانية يضع الاقتصاد والموازنة على مسار مستدام، وفصّلت ذلك عبر إحياء الاقتصاد المتهالك المعتمد على الدولة وإعادة هيكلة النظام المالي والمصرفي، والانتقال الى مستوى إنتاجية ودخل عاليين عبر معالجة هيمنة القطاع العام والتراجع في قطاع السلع والآثار السلبية لسعر الصرف غير التنافسي للدينار وبالذات مقابل أسعار صرف عملات شركاء البلاد التجاريين.
وتحدثت الورقة عن جذور المشكلة المتمثلة بارتفاع نفقات الرواتب وانخفاض الإيرادات والقطاعات غير المنتجة كالشركات الحكومية، وأبواب صرف رأت أنها تمثل عوائق لاقتصاد البلاد كالبطاقة التموينية.
المعضلة الرئيسة: الموظفون
كشفت الورقة البيضاء عن أرقام ضخمة، حيث ارتفعت نفقات رواتب الموظفين في الفترة من 2004 إلى 2020 بنسبة 400% بارتفاع إجمالي عدد الموظفين بنحو 3 أضعاف، وازداد متوسط مدفوعات رواتب القطاع العام 143% في الفترة بين 2006 و2018، لكن الارتفاع المذكور لم تقابله زيادات إنتاجية في العمل (12% فقط) أو بكلفة المعيشة البالغة 28%.
جاءت تأثيرات جائحة كورونا لتعصف بأسعار النفط، فبحسب توقعات الخبراء الاقتصاديين حول عودة التوازن في العرض والطلب على النفط فأن متوسط أسعار خام برنت سيكون 44 دولار للبرميل في الربع الأخير من 2002، و49 دولار للبرميل في 2021.
ووفق هذه الحسابات، ستمثل مدفوعات رواتب الموظفين والمتقاعدين حوالي 122% من عائدات النفط المتوقعة في عام 2020، في حين بلغت 88% خلال أسوأ الأزمات السابقة عام 2016.
في سياق ذلك، قال وزير المالية علي علاوي في مؤتمر صحفي مشترك إن "نسبة رواتب موظفي الدولة في عام 2005 كانت تمثل 20% من مجموع الإيرادات النفطية للعراق"، لكن الإنفاق على الرواتب شهد نموًا بنحو 60% بين 2014 و2020، حسب أرقام الورقة البيضاء.
وبسبب هذا الارتفاع والمخصصات الكبيرة غير المرتبطة بالأداء الوظيفي كالرعاية الصحية والمخصصات والرواتب التقاعدية "أصبحت الوظيفة العامة، القائمة على نظام تعليمي يهيء الخريجين للعمل في القطاع العام وليس الوظائف المنتجة، هي السبيل الذي يسلكه معظم الناس للحصول على المكانة الاجتماعية والضمان المالي".
تخفيض نفقات الرواتب
ستؤدي الفجوة الكبيرة بين النفقات الضرورية والإيرادات المتوقعة الى عجز هائل في الموازنة كما ذكرت الورقة البيضاء التي تسعى لتقليصه بمقدار 3%، حيث قال مقرر اللجنة المالية النيابية أحمد الصفار في حديث لـ"ألترا عراق" إن "العجز الذي تواجهه الحكومة في الشهر الواحد يبلغ 10 تريليونات دينار".
لكن وزير المالية أشار في تصريح تلفزيوني إلى أن "رواتب الموظفين ليست المشكلة، وهي معقولة؛ بل المخصصات التي تصل الى 400% من قيمة الراتب في بعض الوزارات ويجب أن يعاد النظر فيها".
قال مقرر اللجنة المالية إن العجز الذي تواجهه الحكومة في الشهر الواحد يبلغ 10 تريليونات دينار
ويؤكد علاوي أن الحكومة ستكون "مضطرة لمواجهة مشكلة الرواتب شهريًا بسبب عدم كفاية إيرادات النفط لتغطية "نصف قيمة الرواتب". وعلى هذا الأساس، اقترحت الورقة البيضاء "تخفيض نسبة فاتورة الرواتب والأجور من الناتج المحلي الإجمالي من 25% إلى 12.5% خلال 3 سنوات".
اقرأ/ي أيضًا: مجلس الوزراء: إقرار "الورقة البيضاء".. وتوجيه بشأن "قطار بغداد"
وبذلك، ستسبب إجراءات تقليص النفقات معاناةً اقتصاديةً لشرائح واسعة من الناس، كما تذكّر الورقة نفسها، خاصةً وأن معدلات الفقر بين السكان ارتفعت إلى أكثر من 31% بعد فرض حظر التجوال للسيطرة على جائحة كورونا.
لتحقيق التقليص دون الإضرار بالطبقات الفقيرة، يفترض الصفار أن "تتقلص الفجوة بين أدنى راتب وأعلى راتب لموظفي الدولة إلى أقل ما يُمكن"، كون من يتقاضى راتبًا أقل من 600 أو 700 ألف دينار يُدرج تحت خط الفقر"، وفق حساباته.
عوائق اقتصادية: الشركات العامة
حددت الورقة البيضاء عدة أسباب أدت إلى الفشل الاقتصادي والاعتماد الكبير على الريع، من بينها ضعف القطاع الصناعي، كون معظم الشركات العامة "خاسرة" وتعتمد في تموليها على الدولة، إضافة الى الإعانات غير المباشرة كدعم الوقود والكهرباء، في وقت تقل كثافة الشركات الصغيرة جدًا والصغيرة والمتوسطة بالنسبة لكل ألف شخص بكثير، مقارنةً بما هي عليه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والبلدان الناشئة والنامية.
تشير إحصائية للورقة إلى بلوغ "إنتاجية العمالة في العراق بحلول عام 2018 ربع المستويات المرتفعة لعام 1979 وأقل من نصف عام 1970، وارتفاعها حوالي 2% فقط منذ 2004"، لذا تقترح الورقة هيكلة الشركات العامة الممولة ذاتيًا بتشريع قانون لذلك وتحويلها الى شركات خاصة وشركات فرعية ومعالجة الترهيل الوظيفي فيها"، حيث يبلغ عدد العاملين في الشركات 600 ألف منتسب.
البطاقة التموينية
تسبب نظام البطاقة التموينية الذي خصص حصة لكل أسرة بغض النظر عن معدل دخل الفرد الى تشوهات كبيرة في الاقتصاد، بحسب الورقة، وأضاف تكاليف اقتصادية أكبر بكثير من التكاليف المباشرة المقدرة بنحو 2.4 تيريليون دينار عراقي.
كما تسبب بتراجع مستويات الخدمة المقدمة للمستهلك الى مستويات رديئة مع السماح بفرص أكبر للفساد والكسب غير المشروع على طول سلسلة التوريد والتوزيع، ما يستدعي إصلاح نظام البطاقة التموينية وتعويض المشمولين بشبكة الحماية الاجتماعية المتضررين من الإصلاح بمبالغ شهرية وفق الخطة المعتمدة من قبل خلية الطوارئ.
الخدمات
ترى الورقة البيضاء أن أعباءً ضخمة تُفرض على موازنة الدولة من خلال تملّكها للقطاعات الخدمية وأهمها قطاع الماء والكهرباء وتحديد الأسعار بشكل كامل وتقديم الدعم لتمويل هذه الخدمات، وبالتالي زيادة سوء الخدمات المقدمة في ظل زيادة الطلب عليها.
تشير الورقة إلى التوسع الريعي الذي "أدى إلى تشويه الاقتصاد والمجتمع" وإيجاد حالة اجتماعية غير متوازنة بسبب تقديم الدولة للخدمات بشكل مجاني وشبه مجاني، وتقول الورقة إن "المواطنين يفترضون أن على الحكومة توفيرها بوصفها حقوقا مكتسبة، وبسبب مجانيتها فقد أصبحت جودة الخدمات سيئة في أحسن الأحوال"، ويقول وزير المالية إن "قطاع الكهرباء يكلف الدولة 12 تريليون دينار"، لذا تذكر الورقة ضرورة تحصيل الإيرادات لجميع استخدامات الكهرباء على أساس سعر الوقود الحقيقي في السوق العالمي.
التقاعد
تقسم الرواتب التقاعدية ـ وهي جزء مهم من الرواتب العامة ـ إلى قسمين: الأول، المصروفات المباشرة من الموازنة العامة بسبب سياسات الطوارئ التي تم تطبيقها بعد 2003 وتغطي المتقاعدين قبل عام 2006 وذويهم وذوي الشهداء والسجناء السياسيين، والنوع الثاني، مصروفات صندوق التقاعد الذي تتم إدارته من قبل مجلس إدارة الصندوق ويشمل الموظفين المدنيين وقوات الأمن.
توقعت الورقة أن يعاني صندوق التقاعد عجزًا كبيرًا خلال 2025، فضمّنت في إصلاحاتها المفترضة إعادة هيكلة صندوق التقاعد وإعداد مسودة قانون شامل للتقاعد وضمان شمول العاملين في القطاعات العام والخاص والتعاوني والمختلط كافة بتغطية الاستحقاقات التقاعدية.
حلول مقترحة: المنافذ
وسط تراجع أسعار النفط العالمي واتفاق أوبك+ الذي حد من الإنتاج، جرى الحديث كثيرًا عن تعظيم إيرادات الدولة غير النفطية ومن بينها إيرادات المنافذ الحدودية غير المسيطر عليها بصورة شاملة من قبل الدولة.
لكن وزير المالية علي علاوي يؤكد أن إيرادات المنافذ الحدودية لن تسد الحاجة الناجمة عن انخفاض أسعار النفط وليس بأهميته، ورغم أن استيرادات العراق تبلغ 60 مليار دولار في السنة الواحدة بحسب علاوي، فأن ما يُضعف الإيرادات من جمارك وضرائب هو الاستثناءات الممنوحة لبعض أنواع المستوردات، فيما يقترح متخصصون فرض ضريبة على مبيعات مزاد العملة من قبل البنك المركزي.
الاقتراض والتعويم ومزاد العملة
مع الاعتماد على الديون المتراكمة خارجيًا والمساحة المحدودة للدعم الدولي الذي يشترط تطبيق إصلاحات كبيرة، والمعوقات العديدة التي ذُكرت، يبقى التمويل النقدي غير المباشر من قبل البنك المركزي العراقي هو المصدر الوحيد المتبقي، كما تؤكد الورقة البيضاء، وبإمكان البنك توفير تمويل لمدة 12 شهرًا تقريبًا.
وتستدرك الورقة محذرةً من انخفاض خطير في احتياطي البنك المركزي إذا ما استمر تمويل واردات السلع والخدمات في غضون 9 اشهر ما سيؤدي في نهاية المطاف الى أزمة حقيقية في قيمة الدينار العراقي يصاحبها احتمال انهيار قيمته.
قال مقرر الللجنة المالية إن أكثر من 400 مليار دولار أموالًا عراقية مجمدة في المصارف الأجنبية
ويقول وزير المالية في تصريح تلفزيوني إن زيادة الاقتراض عن أرقام معينة ستكون له "انعكاسات سلبية على الوضع الاقتصادي وخاصة ما يتعلق بأسعار المواد ويمهد للتضخم".
اقرأ/ي أيضًا: التفسير الاقتصادي لنافذة بيع العملة
لكن الورقة البيضاء في أثناء ذلك، تشدد على دراسة سعر الصرف الحالي للدولار مقابل الدينار ومتطلبات الاستقرار المالي والنقدي، الأمر الذي عدّه خبراء اقتصاديون إشارة لتعويم العملة وإيجاد بديل مناسب لنافذة العملة.
في ذات السياق، يرجح متخصصون ومسؤولون أن تشهد الأشهر الثلاثة المقبلة ارتفاع سعر صرف الدولار إلى 200 ألف دينار عراقي لكل 100 دولار. (124 ألف الآن).
وبحسب الأرقام المعلنة، فأن احتياطي البنك المركزي انخفض 8.6 تريليون دينار خلال 8 أشهر فقط، حيث أشارت الورقة إلى أن احتياطي البنك يقدر في شهر آب 2020 حوالي 71.3 تريليون دينار عراقي مقابل 79.9 تريليون دينار نهاية كانون الأول عام 2019".
بدوره، يلفت عضو مجلس النواب محمد شياع السوداني إلى أن فرض ضريبةٍ على مزاد العملة وخفض رواتب المسؤولين من شأنهما أن يوفران ترليون دينار شهريًا، فيما يؤكد مقرر اللجنة المالية النيابية أحمد الصفار أن "معدل بيع الدولار عبر نافذة العملة في البنك المركزي يصل إلى أكثر 250 مليون دولار في اليوم الواحد".
كما يقترح الصفار في حديث لـ"ألترا عراق" التحرك نحو "أكثر من 400 مليار دولار أموالًا عراقية مجمدة في المصارف الأجنبية".
اقرأ/ي أيضًا:
اجتماع الرؤساء.. الكاظمي يعرض "الورقة البيضاء" على الكتل السياسية
بينها تفعيل الضرائب.. لجنة برلمانية تطرح حلولًا لمواجهة الأزمة المالية