12-مايو-2019

132 حالة انتحار في عموم العراق فقط في الربع الأول من العام 2019 (حقوق الإنسان)

يقول الشاعر ت. س. إليوت في "الرباعيات الأربع" "أذهبوا.. أذهبوا، فالجنس البشري لا يستطيع أن يتحمل، كل هذا القدر الكبير من الواقع". لكن ما أدرى الإنجليزي الطويل الذي نشأ في كنف حنان أخواته الثلاث ضمن عائلة أرستقراطية تضرب في جذورها تقاليد الطبقة البرجوازية، ما الذي عرفه غير إعاقة ولادية أبقته مطوقًا بحزام البطن نتيجة لفتق ولادي وزوجة عانت الاكتئاب الحاد حتى انفصلا. فيما بقي إليوت هاربًا من طليقته عبر أزقة لندن وكواليس مسارحها، طاردته ولم يكن يمنعها شيء سوى سكرتيراته، حتى ماتت، وعرف هو من خلال إعلان في جريدة تكفل هو لاحقًا بدفع تكاليف جنازتها ومصحتها النفسية. قد يكون هذا "القدر الكبير من الواقع"، هو اليد التي تدفع شبابًا من على أسيجة جسور العراق لتطفو أجسادهم لاحقًا على سطح دجلة أو الفرات.

مفارقات

في بلد يساعد أهله الغرباء أيًا كانوا – هكذا يقول عنا الغرباء أنفسهم - وتروج صفحات عالمية متخصصة بالسياحة إلى آثاره وأهواره في الجنوب، في بلد كان مرشحًا ليغادر تصنيف الدول النامية منذ السبعينيات، تتضاعف فيه اليوم أرقام الانتحار. لا ناقوس يُدق، ولا تحذيرٌ يُطلق، وبدل أن تنتعش الآمال بفعل موسم فيضان تاريخي، ترمي الشابات بأنفسهن في أتون النيران ومن شواهق الجبال في كردستان، ويغلق الشباب عيونهم بالقفز من الجسور في مياه رافديه بالوسط والجنوب.

بدل أن تنتعش الآمال بفعل موسم فيضان تاريخي ترمي الشابات بأنفسهن في أتون النيران ومن شواهق الجبال في كردستان، ويغلق الشباب عيونهم بالقفز من الجسور في مياه العراق

ما الذي يجعل مدينة مسيطرة مثل بغداد تتصدر معدلات الانتحار على مستوى البلاد؟، إنها ببساطة ليست أعلى معدلات العصبية، التي يقول معهد غلوب الأمريكي المتخصص بالإحصاءات حول العالم، إن "العراقيين ضمن "التوب فايف" لقائمة أعلى الشعوب في معدل فقدان الأعصاب".

الأرقام القافزة

في العام 2018 تصدرت محافظة ذي قار قائمة المنتحرين، بـ59 حالة من بينهم فئة الشباب تباينت بين الطلق الناري والشنق والحرق والغرق، ذي قار نموذج للمدن التي تغلب فيها الطبائع القبلية المحافظة لمجتمع جنوبي يتناقص فيه الترفيه، وترتفع بين أوساطه محددات العادات والتقاليد، بمساعدة سطوة الفتاوى الدينية ونفوذ التيارات المتطرفة.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا ينتحر الشباب في العراق؟

ذي قار، مدينة الحرف الأول في تاريخ العالم المعروف، والمصنع الكبير لعقول فذة في السياسة والفن والعلوم الإنسانية، يعلّق أحد شبابها بكوميديا سوداء، أن "ذي قار الأقدم في التاريخ، الأعلى في نسبة الفقر، الأكثر شهداءً في قتال تنظيم داعش خلال الأعوام التي أعقبت 2014"، مضيفًا بمرارة في حديثه لـ"ألترا عراق"، "هل تعلم لماذا ذهبوا بهذه الكثافة؟!، ليس فقط من أجل العقيدة وحب الوطن، بل طلبًا للموت والخلاص من الواقع المزري".

تقول دائرة البحوث في مجلس النواب إنه "برغم عدم صدقية الإحصاءات الرسمية، إلا أنها قد تعطي نظرة عن ما نحن بصدده"، حيث تشير أرقام السنوات من 2003 وحتى 2013، إلى أن أعلى الأعوام 2013، قد سجل 439 انتحارًا، بينما سجل الربع الأول وحده من 2019، أي العام الحالي 132 حالة في عموم العراق باستثناء أعداد المنتحرين في إقليم كردستان، وبحسب إحصاء مفوضية حقوق الإنسان.

قاضٍ عراقي يطلق النار على نفسه في بث حي عبر فيسبوك (ألترا عراق)

أغلب من سلم نفسه للشنق، الحرق، للرصاص، أو ألقى بجسده من شاهق أو إلى جرف نهر، أو فضّل ابتلاع حفنة من المهدئات كانوا من العشرينيين، الأكثر تأثرًا بظروف بالبلاد، المنتشرين في مواقع التواصل الاجتماعي، غالبيتهم ممن انغلقت أبواب الآمال بوجوههم، بينهم ممن حوصر في زاوية تجاوزت العيش بلقمة رزق كريمة، أو حياة اجتماعية هادئة متزنة.

القاع المظلم

ليلًا حظيت بآخر باص "كيّا" كانت تقاسي جرّاء قدمها، "سكراب" يسير بقدرة ما، توقفت أمامي خالية فقفزت إلى مقعدها بجانب السائق الشاب الذي جمعني معه طريق مليء بالزحامات الليلية، وكلام عن كل شيء وأي شيء قتلًا للضجر والوقت وتغطيةً على صوت المحرك المهترء، صادفنا اعتصامًا لخريجي هندسة البترول أمام وزارة النفط للمطالبة بتعيينهم على ملاكها، أشار بأصبعه على خيامهم "شوف، من الممكن أن ينتحر هؤلاء قبل أن يرف جفن أي مسؤول حكومي بالاستجابة لهم"، لم تصدر مني أي موافقة أو اعتراض.

ضرب الشاب الهزيل بكفه على المقود مضيفًا "عملت في غسل وتشحيم السيارات، نظفت شوارع، بعت ملابس مستعملة في الباب الشرقي، ثم تطوعت في الحشد الشعبي على الحدود مع سوريا، في عكاشات تحديدًا ومن هناك أخذونا إلى حلب دون أن ندري، موضحًا "قاتلنا طويلًا متنقلين على طول جبهة تقدر بمئة كيلو متر، كل هذا مقابل 200 دولار، بقيت هناك لشهرين ولم أحظى بالراتب المزعوم فقررت العودة، لكني لم احظ حتى بـ"شكرًا" بعد تسريحي، فضلًا عن الراتب مرة أخرى"، وأشار إلى حفرة في فخذه بعرض أصبعين، جذب يدي "هاك، تحسسها".

 أشباح اليوم تمر عبر الإحباط في عقولٍ هي الأقرب إلى التكنولوجيا والإطلاع على ما يحدث خارج حدود بلادهم، أهداف تتحقق، سفر، تعليم، وضمانات لن يروها!

معهد غلوب وضع العراقيين ضمن أكثر الشعوب تعرضًا للإيذاء النفسي والجسدي، يحدث هذا في بلد قال فيه الأسلاف البابليون، مشيرين إلى شارع الموكب "هذا شارعٌ لا يمر عبره الأعداء"، لكن أشباح اليوم تمر عبر الإحباط في عقولٍ هي الأقرب إلى التكنولوجيا والاطلاع على ما يحدث خارج حدود بلادهم، أهداف تتحقق، سفر، تعليم، وضمانات.. لن يروها.

إنه الجيل المحاصر بالسلبية وانحسار الفرص، المُهان في صميمه والمغمور بحالة العبث والضياع، والظروف التي تحكم بلاده القابعة في أدنى مراتب البلدان غير القادرة على تنمية ثروتها البشرية، أنه بالتأكيد الجيل الأقرب إلى المتاجرين باليأس كما يقول مختصون.

اقرأ/ي أيضًا: "نخاسة العشيرة" فوق الدين والقانون.. لماذا تنتحر النساء؟

شهقات في ردهة طوارئ!

تواصل "ألترا عراق" مع أطباء مختصون وبعض موظفي المستشفيات، يقول طبيب تخرج حديثًا يعمل في قسم الطوارئ التابع لإحدى مستشفيات العاصمة، "من السهل قتل نفسك، أنظر حولك، مضيفًا "في بعض مناوباتي المسائية كان يصلنا أشباه بشر، فتيات وشباب يستخدمون مختلف العقاقير، بعضها لسوء الحظ، لا يعطينا وقتًا للإنقاذ، ولا يمنح المتعاطي فرصة ثانية ليوم آخر".

يفضي مجاز مدخل الطوارئ إلى أصعب المشاهد التي قد تخذلك فيها مشاعرك، حتى لو كنت صحفيًا متخفيًا. ستجد فتاة قد ابتلعت أي سموم تحت يديها في غفلة من الجميع حولها، مبيدات حشرية، جرعات كبيرة من المهدئات أو الأدوية، والأسباب بجانب أن تكون قلبًا مكسورًا، أو معدلًا متدنيًا في نهاية فصل دراسي، عينان متورمتان أو أضلاع متكسرة.. الأمر واضح "عنف أسري".

الطبيب الذي سربني إلى الطوارئ كصحفي، يهمس من خلفي بالإنجليزية "أخ غاضب أو زوج غيور أو أب يحاول التأديب، لا يهم.. النتيجة واحدة".

تجد شابًا قد شق وريده بآلة حادة يتراكض حوله الأطباء وبعض الممرضين بلا فائدة، يشير لي حارس منشآت يرابط في الباب الخلفي لإحدى المستشفيات بضجر إلى ثلاجة الموتى، "هذه الالات لا تليق بأجساد الشباب".

يقول المختصون إن "النساء الفئة الأكثر في قائمة المنتحرين، والأسباب سطوة مجتمع ذكوري متحكم وقابض على مصائرهن"، فيما يعمد العديد من النساء المنتحرات إلى حرق أنفسهن، وفي هذه "الحالة تكون نسبة الشفاء قليلة أو تحدث تشوهات خطيرة، هذا إن كتبت لهن النجاة"، تقول ممرضة.

الإتجار الخفي باليأس.. ربح معلوم!

ماذا حدث لاحقًا؟، تنوعت طرق إنهاء الحياة، انتشر المُعتاشون على الكآبة من تجار المخدرات وحبوب الهلوسة، انتعش سوق بملايين الدولارات من جيوب الفقراء في جنوب ووسط البلاد.

 العديد من النساء المنتحرات يقدمن على إحراق أنفسهن، وفي هذه الحالة تكون نسبة الشفاء قليلة أو تحدث تشوهات خطيرة، هذا إن كتبت لهن النجاة!

في مطلع آذار/مارس الماضي، قال رئيس الوزراء إن "المخدرات تأتي عبر الأرجنتين"، ليس هنا أصل الحكاية، بل بما فيها من معلومات.

اقرأ/ي أيضًا: بعد تكرار الحالة في ثلاث محافظات.. انتحار شابتين في الديوانية

أجهزة المخابرات والاستخبارات العراقية جمعت عدة خيوط في يد واحدة، بعد أن ضبطت ثلاث شحنات، الملايين من حبوب الهلوسة وقرابة طن من الهيروين. الأولى كانت شحنة هائلة وردت إلى كربلاء اكتشفت في مطار المدينة، فيما تم اعتقال ابن محافظ النجف لؤي الياسري أثناء نقله الشحنة الثانية، بينما قادت معلومات استخبارية إلى اكتشاف الثالثة في الأنبار.

"من يقرر.. قد ينفذ"!

وبحسب المختصين، تساعد كل أنواع المخدرات والكحول على الأتيان بأفعال إيذاء النفس وحتى في حال تناول الأدوية والسموم فيمكن إنقاذ الشخص المنتحر بغسل المعدة، لكن لا شيء بلا ضريبة، إذ تبقى المضاعفات المؤثرة على المخ وأعضاء الجسم عمومًا.

أحساس عارم بالكآبة والغضب الداخلي يضرب اطنابه في أوساط الشباب، هؤلاء يشكل مجموعهم قرابة 60% من سكان البلاد. يقول طبيب نفسي مشخصًا للحالة الشائعة إنها "أمراض تبدأ بالاكتئاب ثم ما يسمى باضطراب ثنائي القطب والذي يؤدي إلى تقلبات مزاجية مفرطة، تصل بالمصابين إلى الهوس والغرق في الحزن والمشاعر السلبية لفترات طويلة، والإفراط بتناول بعض العقاقير، مما يولد الرغبة بالانتحار في أحيان كثيرة".

يربط المعنيون بدراسة الظاهرة تزايد الحالات بتناقص المعالجات الطبية اللازمة، خجل الأهل وتقليلهم من آثار الأمراض النفسية على أبناءهم.

تزايد حالات الانتحار يرتبط بتناقض المعالجات الطبية اللازمة مثل خجل الأهل وتقليلهم من آثار الأمراض النفسية على أبناءهم

لا تبدو التفسيرات الطبية مرضية كثيرًا، يعود الطبيب ليقول "في العادة، الأكثر خطورة، ليسوا الصامتين، بل الذين يبدون لك على أنهم طبيعيون، هؤلاء من يكونوا أحيانًا ممن قرر، وسينفذ".

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

من الترانزيت إلى الاستهلاك.. المخدّرات تتسلّل إلى حقائب طالبات العراق

قاضٍ عراقي يطلق النار على نفسه في بث حي عبر فيسبوك.. هذه حالته!