15-يوليو-2021

تعيش السلطة في العراق بأركانها حربًا وجوديةً مع الناس (فيسبوك/ تعبيرية)

لطالما اقتربت الحرب الأهلية الشيعية - الشيعية، بعد سقوط محافظات بيد تنظيم داعش، من التفجّر حتى كُبحت بفعل عوامل عدّة وإرادات أعاقت استمرار الاحتقان الذي يدفع إلى استخدام السلاح خيارًا أخيرًا في صراعات غالبها سياسية بغض النظر عن القوالب والأشكال التي تتخذها.

التدخلات الخارجية والتي يُعلّق عليها بـ"جعل العراق ساحة صراع بين الدول الإقليمية والدولية" تمهّد الأرضية للانفجار كلما انطلق صاروخ هنا أو انفجرت قنبلة هناك

نزل التيار الصدري إلى الشارع مقتحمًا التظاهرات المناوئة للفساد والمطالبة بإبعاد المحاصصة والدين عن الدولة، في 2015. وبحكم ثقل التيار، اتخذت الاحتجاجات أبعادًا سياسية محلية وإقليمية أكبر، خصوصًا حين نفذ زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر اعتصامًا منفردًا في المنطقة الخضراء. حُبست الأنفاس وقتئذٍ. ولو سقطت رصاصة طائشة على خيمته لما مرّت الأيام بسلام نسبي كما حدث.

اقرأ/ي أيضًا: مثلث الانسداد: القبيلة والطائفة والريع

بعد ذلك، اقتحم المحتجون المنطقة الخضراء مرتين، ونزل فصيل مسلح إلى الشارع في الأثناء بما بدا رسالةً تحذيرية من أطراف أخرى للصدريين بألّا تذهبوا بعيدًا أكثر مما هو الآن. في ذلك الوقت كانت الأذرع المسلحة للصدريين مستعدة للدخول في اشتباك للدفاع عن المتظاهرين الصدريين، لكن المعركة أوقفت قبل أن تبدأ.

لم ينجح الاقتحام دون ضحايا سقطوا برصاص الأجهزة الأمنية الحامية للمنطقة الخضراء، ثم عادت الكرّة بعد عام وسقط 14 ضحية قرب جسر الجمهورية أثناء الاحتجاجات المطالبة بتغيير مفوضية الانتخابات.

مع حلول موسم الانتخابات، زاد الصراعُ السياسي والاحتقان معه. تفجّرت مخازن للأعتدة وزادت حوادث الحرائق كما يحدث الآن حتى وصلت إلى صناديق الانتخابات في جانب الرصافة. ومع انقسام القوى الشيعية الرئيسة إلى تحالفين (إصلاح وبناء) ضم الأول التيار الصدري والحكمة والنصر، وضم الآخر الأذرع السياسية للفصائل المسلحة، "كان الأصبع على الزناد" بتعبير أحد المعلقين، ثم انزاح الأصبع مع اتفاق الصدر - العامري على تشكيل حكومة عادل عبد المهدي؛ لكن اليد بقيت على المقبض.

هدنة القوى الشيعية الرئيسة، وتحديدًا التيار الصدري وقوى تحالف الفتح، وانفرادهم بتقاسم المناصب في حكومة عادل عبد المهدي لم تمر بسلام. كسرها المحتجون مطلع تشرين الأول/اكتوبر 2019 باحتجاجات هزّت النظام السياسي. اقتربت الأوضاع من الانفجار غير مرّة، في حادثة ساحة الخلاني وجسر السنك التي استمر إطلاق النار فيها حتى ساعات متأخرة من الفجر وصار معلومًا من الذي تبادل النيران، ومرورًا بحادثة المطار التي وضعت البلاد على فوهة الحرب، وليس انتهاءً بانقلاب التيار الصدري على التظاهرات والاشتباك مع المحتجين.

الاحتمال القائم

ما زال الاحتمال قائمًا لأسباب عدّة ولمحاور ثلاثة؛ منطقية وتاريخية وواقعية. إن ما يسمى بالسلاح المنفلت، أو سلاح اللا دولة - أشرنا سابقًا إلى عبثية التصنيف بين قوى الدولة واللا دولة في العراق - أحد أهم العوامل المنطقية التي تساعد على بقاء إمكانية الاقتتال حاضرة. يضاف لها ما كان وما هو كائن: حالة القوى الخارجة من الحرب منتصرة، ونقصد الحرب ضد تنظيم داعش وتثبيت أقدام النظام ثم العودة إلى التنافس على السلطة في بغداد، إذ تُعزز منطقَ الحرب حالة الصراع الطبيعية على أكبر قدر من المكاسب التي تتقاطع مع احتجاجات شعبية وفئوية يسهل استغلالها لضرب الخصوم بعضهم بعضًا.

ليس بالجديد القول إن التدخلات الخارجية والتي يُعلق عليها بـ"جعل العراق ساحة صراع بين الدول الإقليمية والدولية" تمهّد الأرضية للانفجار كلما انطلق صاروخ هنا أو انفجرت قنبلة هناك.

بالاستعانة بالتأريخ تُخبرنا نماذجُ من الصراعات والحروب داخل الطائفة/الفئة/.. الواحدة عن طبيعة ذلك الصراع وأسبابه وشدّته. في سوريا واليمن وليبيا ومصر بعد الثورة، أمثلة عن التنافس حول السلطة تدلنا على الآلية التي تتحول فيها المنافسة على قطاع محدد واحد من الناس إلى معركة بلا قيود سياسية أو أخلاقية بل ومنزوعة من قيم الفئة المتصارعة، ونعني ما جعلها فئةً بالأساس، من مبادئ ومخيال جمعي وخطاب آيديلوجي، وكليشيهات.

كما يخبرنا التاريخ القريب عن معارك ونزاعات شرسة حصلت بين أحزاب وفصائل ومجاميع موجوة حتى الآن من جهة، والتيار الصدري من جهة أخرى، وكذلك بين الحكومة بدعم الأمريكيين، والتيار الصدري في ما عُرف آنذاك بـ"صولة الفرسان"، ولعل الكثير من العوامل التي تمنع نشوب حرب صريحة في الوقت الحالي هي ذاتها من منعت انزلاق المعارك السابقة المذكورة إلى حرب مفتوحة، ذلك مع الأخذ بنظر الاعتبار التطورات الأخيرة في المشهد السياسي.

تعيش السلطة في العراق بأركانها حربًا وجوديةً مع الناس مرة، ومع بعضها البعض مرة أخرى

ما زال الاحتمال قائمًا بحكم المعطيات في الواقع، من تدهور اقتصادي ناجم عن انهيار أسعار النفط العالمية والإغلاقات الهادفة لاحتواء كورونا والذي - أي تراجع الاقتصادي - تزامن مع تفقيس الأحزاب والأجنحة المسلحة الباحثة عن موارد تديم أعمالها، بمعنى آخر: اتساع حلقة الطبقة السياسية وأذرعها الاقتصادية مقابل تقلّص الإيرادات، ما يشد من حالة الصراع على الثروة.

اقرأ/ي أيضًا: قوى الدولة واللا دولة.. مواقع بلا وقائع

قضية أخرى تتقاطع مع الواقع أعلاه: تصاعد المطالبات الاجتماعية المتعلقة بالخدمات والتعيينات والإصلاح ومحاربة الفساد، مقابل عدم استجابة النظام المنشغل بالصراع على الثروات كما ذكرنا، إذ تعيش السلطة بأركانها حربًا وجوديةً مع الناس مرة، ومع بعضها البعض مرة أخرى.

كذلك، يضفي الصراع الأمريكي - الإيراني ومستجدات حوارات فيينا وأجندة الفصائل المسلحة الحليفة لإيران المزيد من الواقعية على خطورة الموقف، فصراع يُمكن أن يتخذ أشكالًا أخرى ليبقى صراعًا ناعمًا لكنه خشٌ على هيئة حرب أهلية في العراق.

لا نقصد بالحرب الشيعية نموذجًا واحدًا، بل داخل كل ما يدخل ضمن "المكون الشيعي" وفق مصطلحات النظام الأمريكي. يُمكن أن تكون بين الحاكمين والمحكومين، أو المحكومين وفصائل مسلحة، أو فصائل مسلحة مع بعضها، أو الحكومة وفصائل مسلحة.

ثلاثة أسطر من الكلمات الطائفية مع الاعتذار:

اذا كان ثمة قارئ عربي يطّلع على ما ذُكر يجب ألا يفهم منه حصر المشكلة بالطائفة الشيعية؛ فالنظام المحسوب على السُنة قبل نصف قرن كانت الشخصيات والأحزاب فيه تنقلب على بعضها رغم أنهم عرب سُنة قوميون، وبعثيون أحياناً. إنها أزمة دولة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الدولة اليتيمة

معادلة المحنة العراقية وإنتاج البديل السياسي