04-يونيو-2021

لا توجد دولة في العراق ولا سلطة للقانون (فيسبوك)

كما يحصل في العديد من الصراعات المطروحة على وسائل الإعلام مختلفة الأنواع التي لا جذور نظرية أو حقيقية واقعية لها على الأرض، يدور حديث عن صراع بين "قوى الدولة" و"قوى اللا دولة" في العراق، وابتداءً، لا نقصد التكتل الجديد بهذا المسمى بذاته.

يَصعبُ التمييز بين طرفي نقيض داخل النظام السياسي في العراق

تبدو الإشارة واضحة، للوهلة الأولى، للمقصود من ملامح الطرفين؛ القوى التي تدعو لحصر السلاح بيد الدولة مرارًا ولا تشتهر – ويجب التركيز على كلمة تشتهر – بفعاليات مسلحة حزبية وتُتهم باستخدام السلاح المنضوي قانونًا تحت خيمة الدولة وخلافه في الصراعات السياسية والتنافس الاقتصادي والانتخابي بل والخارجي. فيما تُعرّف القوى الأخرى نفسها بقوى الدولة بالمعنى السالب، عبر اتخاذ الموقع المقابل – أي بنفي صفة اللا دولة الملصوقة ببعض الأطرف عنها.

اقرأ/ي أيضًا: معادلة المحنة العراقية وإنتاج البديل السياسي

ولكي لا ننساق خلف صراع وهمي أو لنفهم ونُعدّل طبيعة الصراع إن كان لا بد من اختيارٍ بين طرفين، ينبغي طرح الأسئلة الآتية من جديد: لماذا هي قوى الدولة واللا دولة أصلًا؟ وما هي الصفات التي تفصل بين هذه الصفة ونفيها؟

في الأساس، لا نعرفُ أحزابًا غير موجودة في جهاز الدولة عمومًا بطريقة أو أخرى إلا القليل الذي اكتفى بوجوده رسميًا في هيئة الحشد الشعبي المصوّت عليها في مجلس النواب بوصفها جهازًا أمنيًا رسميًا بعد اندلاع الحرب ضد تنظيم داعش. ومن هذا الباب أولًا يَصعبُ التمييز بين طرفي نقيض داخل النظام.

في الوقت الذي تتحدث فيه "قوى الدولة" عن السلاح المنفلت، تشير فعاليات مجتمعية ووسائل إعلام إلى تعبير أكثر صراحةً منه بـ"سلاح الميليشيات". ولعل التمييز هنا ضروري. فإن كنّا نتحدث عن الميليشيا بوصفها جماعات مسلحة خارج إطار المؤسسات الرسمية فسيكون هناك شيء من التعقيد النظري لسببين: أولهما ما ذكرناه، حيث تتنظم الكثير من الجماعات التي تسمى ميليشيات تحت هيئة قانونية، وثانيهما إن قوى الدولة ذاتها سواء أكانت شيعية أو سنية أو كردية لديها من الميليشيات (القانونية أيضًا) بمسميات وعناوين مختلفة.

مسألتان تتعارضان الآن: أغلب القوى لديها "ميليشيات" بالمعنى المتداول السائد، ولا وجود لقوى مسلحة غير منتظمة بقانون – فمن أين جاء الوضوح في الفصل بين ما تسمى بقوى الدولة واللا دولة؟.

ليست الوقائع هي من تضع الخيط الفاصل بين الطرفين، بل التوجّه الخطابي والأفعال غير المنضبطة للعناصر المسلحة التابعة للطرف المعني. كانت حادثة اعتقال اللواء في الحشد الشعبي قاسم مصلح أحد الأمثلة على مظهر يعزز نظرة "اللا دولة" اتجاه الأحزاب والقوى السياسية الراعية للفصائل المسلحة التي أقدمت على اقتحام المنطقة الخضراء احتجاجًا على اعتقال مصلح.

مثالٌ آخر: لا يُعرَف عن "قوى الدولة" ومسلّحيها في الأوساط الشعبية والإعلامية اصطدامها الدائم بالمتظاهرين والفعاليات المدنية في العراق على العكس من الفصائل المسلحة المُتَهمة بقتل الناشطين والمتظاهرين.

مثالٌ ثالث: لا تصطدم الجماعات المسلحة والميليشيات التابعة للأحزاب – غير الأحزاب الراعية للحشد الشعبي – بالقوى الأجنبية سواء التحالف الدولي أو الأمريكيين العسكريين والمدنيين. وبطبيعة الحال، لا تُصنف الولايات المتحدة الفصائل المسلحة غير المتصادمة معها تحت عنوان الميليشيات بغض النظر عن توصيفاتهم القانونية، وكذلك تفعل مع "الإرهاب"، بانتقائية، وهو ما ينسحب على استخدام اللفظ إعلاميًا من جهازها الإعلامي ومن معه.

لا توجد دولة في العراق ولا سلطة للقانون. وكعبُ الحكومة لا يرتفع إلا على المواطنين

إذن، الفعاليات الصِدامية هي من تتحكم بإطلاق الأوصاف وتمييز القوى السياسية في العراق، سواء الصِدام مع الشارع المدني أو السلطة الرسمية أو القوات الأجنبية، وإلا - وبالعودة للسؤال الأول -  فما الفرق الجوهري النظري الدستوري بين المسلحين التابعين للعتبات الدينية في النجف وكربلاء والتيار الصدري وتيار الحكمة وحزب الدعوة والأحزاب المنضوية في تحالف الفتح والحشد العشائري التابع لسياسيين سُنة والبيشمركة .. إلخ من المسميات؟

اقرأ/ي أيضًا: الدولة اليتيمة

الواقع يُجيب: لا توجد دولة في العراق ولا سلطة للقانون. وكعبُ الحكومة لا يرتفع إلا على المواطنين. الجيش لا يمكنه دخول إقليم كردستان، والقائد العام للقوات المسلحة لا يُسمح له باعتقال لواء في جهاز أمني تابع له، والقوى السياسية الرئيسة في البلاد تمتلك أجنحة مسلحة تحميها وتوفّر لها المال والقوة.

مسألة أخرى تعزّز ضرورة مراجعة من يطلق التسميات هنا وهناك: إن القوى التي تسمى بـ"اللا دولة" تمتلك من القيادات والعناصر الأمنية وغير الأمنية في الجهاز الرسمي للدولة، ليس الذي سُن قانون له ليصبح "دولة"، بل في الأجهزة الموجودة قبل وجودها الظاهر الآن، وأعني وزارتي الداخلية والدفاع وأجهزة الاستخبارات والأمن الوطني وغيره، وبالإمكان سؤال عادل عبد المهدي ومصطفى الكاظمي عن الكثير من أحداث قتل المتظاهرين أثناء احتجاجات تشرين. ذلك بالإضافة إلى تأثير هذه القوى على السلطات القضائية ووجودها الثقيل في المجلس التشريعي الأكبر في البلاد، وكل هذا الوجود "في الدولة" يدافع علنًا عن الوجود "خارج الدولة"، وتلك معضلة كبرى.

مع هذا التعقيد والتداخل الهائل في النظام السياسي العراقي والبحث عن حلول لإنقاذ البلاد من الانهيار الأخير في ظل غياب قوتين منفصلتين تمامًا في الدولة وخارجها، وتجاوزًا للمزيد من الأسئلة القَبلية، نطرحُ سؤالًا يحدد موقف الراغبين بحق ببناء الدولة اتجاه الطرفين في ظل المعطيات التي سردناها: هل بالإمكان بناء الدولة عبر محاربة قوى اللا دولة بأسلوبها؟ ذلك سؤال سنبحث فيه لاحقًا.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

العلاقة بين المجتمع والنخبة: محاولة للفهم

الفصل بين السلطات.. "مجتمع بلا دستور"