06-أبريل-2019

بعد غياب دام أشهر ظهر الصدر في رسالة ضرب بها إيران والسعودية من خلال الأسد وحرب اليمن (تويتر)

سرق زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الأضواء مجددًا. إذ عاد من حيث كان، لا فرق إن تواجد في مشفى أو مُعتزل عن الكاميرات والأنصار، فهذا الذي يحوز آلاف القلوب والعقول وسط البلاد وجنوبها، عاد متكئًا على عصا بعد اعتكاف دائمًا ما تأتي خلفه مفاجآت في الطريق.

يبقى مقتدى الصدر مثل صندوق أسود يستعصي على فهم الأصدقاء قبل الأعداء، يحدث هذا بينما تنكشف ظهور "العلمانيين" في البرلمان والحكومة!

الصدر، المولع بالسيميائية والترميز في خطاباته وحركاته، يشحذ خيال أنصاره وخصومه على حد سواء، يترقب الجميع كل بيان، وسم، خطاب متلفز، ظهور علني، أنه الوحيد القادر على إحداث هزة في العملية السياسية المبنية على توافقات الغرف المغلقة وتفاهمات مصالح الطائفة وصداقات البزنس. عنيد ولا يمكن المساومة معه كما يقول عنه أنصاره وأعداؤه. إنه من المعممين القلائل الذين يفكرون وحدهم في شؤون السياسة، ولا يستشير إلا في التفاصيل، وهذا سبب في إخفاقات كبرى، كان هذا قبل أن يكسر الحزب الشيوعي قاعدة "وحدة العقل والتفكير الصدري".

اقرأ/ي أيضًا: "عاصفة" تنتظر عبد المهدي وخلافات مع السيستاني: رسائل وخطوات الصدر القادمة

عاد الصدر، من حيث ما عاد، وقد أصدر بيانًا يدعو فيه الحرس القديم، من كتلة الأحرار التي شغلت مقاعد التيار الصدري في البرلمان إلى تقديم أنفسهم أمام المجلس الأعلى لمكافحة الفساد الذي استحدثه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي مؤخرًا، أول قرار ما كان ليتوقعه أحد من الصدريين أنفسهم، هكذا هو الصدر منذ العام 2015 وما تلاه، يحرك المياه الراكدة، ويوقفها إن أراد، يغلق الطرق السهلة على خصومه ويعرقل خططهم، لا يخاف استعداء حلفاء إيران، ولا يلين مع السفارة الأمريكية ببغداد، وحين ينحني الجميع أمام العاصفة، يقف الصدر وحده، إن أراد.

يبقى مقتدى الصدر، مثل صندوق أسود، يستعصي على فهم أصدقاؤه قبل أعدائه، يحدث هذا بينما تنكشف ظهور "العلمانيين" في البرلمان والحكومة، وحتى في الشارع. أفكارهم عن حيادية التعامل مع الدين ووجهة الدولة يتبناها الجميع، حتى أبسط عراقي نجا من الحرب الطائفية، إلا أنهم يفشلون في إقناع الناخبين، ويقفون عاجزين عن إزاحة الكتلة الصامتة المتزايدة من مكانها المحايد الناقم على الجميع بقضهم وقضيضهم.

زعيم التيار الصدري المندفع تارة، والمتأني تارة أخرى، يملك عدة أوراق رابحة، لا يملكها نظرائه، يدعم التكنوقراط ويحترم حلفائه الشيوعيين، ينتقد الاستبداد دون النظر للأحلاف الطائفية العابرة للحدود، يضرب إيران ببشار الأسد، والسعودية برئيس اليمن، بينما بقي الكثير لا يستطيعون عبور جدار الطائفة، داخليًا وإقليميًا، بغض النظر عن النتائج. فيما دعم حزب الاستقامة، الذي كتب نظامه الداخلي وأسس هيكله حلفاؤه العلمانيون، فاز بـ52 مقعدًا من أصل 54 في الكتلة البرلمانية الأكبر "سائرون"، والتي حصلت على ‏نحو 16.5% من مجموع الأصوات في العراق بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة في 2018، رفض ترشيح أي صدري إلى ‏الوزارات التي حصلت عليها كتلته ضمن حكومة عبد المهدي، وفضل أن يقوم الأخير بترشيح مستقلين متخصصين ليس لدى أي منهم خلفيات دينية/سياسية معروفة.

لم تكن تبدو النية على الصدر وحلفائه اليساريين في دخول معمعة المعارضة، لم يحدث هذا رغم ترجيحه حتى الأيام الأخيرة التي سبقت تكليف عادل عبد المهدي بمهمة تشكيل الحكومة.

العلمانيون، المدنيون تشظوا وانفرط عقد التحالف المدني الديمقراطي فيما تداعى الخطاب الناجح الذي حصد ما يقارب نصف مليون صوت بميزانية دعائية متواضعة، إنه نجاح لم يستمر كأنه تجريب!

أمام الكاريزما الطاغية للصدر كفرد وكمرجع ديني/سياسي، كان السياسيون العلمانيون لا يختلفون كثيرًا عن التفكير بذواتهم، وفوق هذا البروز على بعضهم كقادة، غاب العمل وفق برنامج مدروس، فحدث ما يعد الآن كابوسهم وأكبر محنهم.

اقرأ/ي أيضًا: في ذكرى تظاهراتنا.. الصراع داخل "طائفة الاحتجاجات"

تشظى العلمانيون "المدنيون". انفرط عقد التحالف المدني الديمقراطي – الفائز بثلاث مقاعد في انتخابات 2014-  إلى شلل، تداعى الخطاب الناجح الذي حصد ما يقرب عن نصف مليون صوت حينها وبميزانية دعائية متواضعة، نجاح مبهر لم يستمر، كأنه تجريب!.

خطاب المدنية هذا حاولت أحزاب إسلامية تقليده في الكليشهات والخطابات العامة وحتى الوجوه بلا نجاح يذكر، منهم سليم الجبوري فرع الإخوان المسلمين العراقي، ‏وعمار الحكيم رئيس المجلس الإسلامي، ثم تيار الحكمة لاحقًا.

أداء النواب "المدنيين" لم يكن مرضيًا لجمهورهم، تلقى التحالف المدني الديمقراطي نقدًا لاذعًا إبان احتجاجات صيف 2015، بعد التصريح الشهير لوزير الكهرباء "طفوا الكيزر".

النائبة شروق العبايجي التي صارت "زعيمة الحركة المدنية العراقية" كانت قد طُردت من قبل متظاهرين في ساحة التحرير في العام 2015، بحجة أن النواب لم يعودوا يمثلون الشعب، أما هي فتتهم الشيوعيين باستبعادها، رغم أن المصادر تقول أنهم "مدنيون" كانوا من ناخبيها!.

توارى رئيس حزب الأمة مثال الآلوسي في أربيل وتفرق أعضاء حزبه، ولم يعد يُرى في جلسات البرلمان، حيث تنقل الأخبار خضوعه لعمليات جراحية، إضافة إلى استخدامه المدنية والعلمانية للترويج لقضايا لا تشتبك مع جذور المشاكل الكبرى في العراق.

النائب الثالث فائق الشيخ علي كان الأقل خسارة، اعتمد على لسانه وتصريحاته المثيرة للجدل، مرة يسب الإسلاميين علنًا، ومرة يقول في آخر خطاباته الانتخابية "ايها العركجية والفيترجية قفوا معي كما وقفت معكم"، سياسيًا، لا يجيد العمل ضمن فريق، حيث تقول عنه إحدى وجوه معارضة نظام صدام "كنا نقدمه في مؤتمراتنا بالضد من البعثيين في الخارج، لأنه الأعلى صوتًا"، أنه بحسب قراءة علماء نفس راقبوا تصريحاته "يمارس السياسة للمتعة".

بدأت قصة الحلم الضائع في توسيع جبهة المدنيين ضد جبهة حلفاء إيران قبيل الانتخابات التشريعية في 2018، بحسابات رياضية خذلت من وضعها، ولم تستطع أي مفاوضات لملمة الشتات العلماني المدني الذي بات صعبًا تقريبه وتوحيده.

دخل الشيوعيون في مفاوضات مع أحزاب مدنية صغيرة، كانت الفكرة صياغة كيان تحت لافتة التيار التقدمي الديمقراطي "تقدم"، ثم الانفتاح على الأطراف الأقرب، منهم شركاء التظاهر في ساحة التحرير، لكن هذه المفاوضات لم تسفر عن اتفاق، للحلف مع "إسلاميين يبتلعونهم".

يقول أحد الحاضرين لاجتماعات التفاوض، "بعضهم توهم بأن الصعود إلى البرلمان أسهل من شرب كأس ماء، حتى طالت الخلافات على من يكون "الرقم واحد" في تسلسل القائمة الانتخابية"،  وحين حسم الحزب الشيوعي أمره بالدخول مع التيار الصدري بعد تنسيق "احتجاجي" طويل، كانت طاولات أخرى تنشغل بتفاهمات بين الشركاء السابقين في التحالف المدني.

فائق الشيخ علي بدا أنه يقامر في أكثر من مكان، يرسل مندوبين من حزبه إلى اجتماعات تفاوض مختلفة ليفاضل بين العروض الأنسب، بعث للصدر برسائل عبر وسطاء، وماطل الشيوعيين، وحاور المدنيين، حتى قرر رفض الدخول في "تقدم" وأطلق "تمدن" بدلًا عنها برفقة شروق العبايجي.

في انتخابات معقدة على الجميع، كان العلمانيون والمدنيون على شتاتهم قد خرجوا بقرابة خمسة مقاعد لكنها مقاعد أيضًا صارت شتات بين زحمة القوائم! 

بخلو التحالف المدني من قادته وأحزابه، خلت الساحة لآخرين، جاء مؤسس القائمة العراقية، البعثي غسان العطية، ودخل مع من تبقى من قوى وشخصيات في التحالف المدني الديمقراطي بحلته الجديدة.

في انتخابات تشريعية معقدة على الجميع كبارهم وصغارهم، كان العلمانيون والمدنيون على شتاتهم قد خرجوا بقرابة خمسة مقاعد، فاز الشيوعيين بمقعدين ضمن تحالفهم مع الصدر، وحصلت "تمدن" على مقعدين، أحدهما لفائق الشيخ، وآخر لنائب في صلاح الدين أعلن انضمامه لاحقًا لتحالف سني، عاد الأخير إلى أسوار الطائفة، معها الأسوار المناطقية والقبلية.

أما التحالف المدني "بإدارته الجديدة" فحصل على مقعد واحد من نصيب محمد علي زيني، وللأخير الذي ترأس أول جلسات البرلمان بحكم الأكبر عمرًا، جدل طويل، فقد ظهر على أنه الأكاديمي العلماني الذي تفتقده هذه البلاد منذ العام 2003، لكن اسمه ظهر ضمن قائمة الموقعين على وثيقة "إعلان شيعة العراق" الذي وضعته أحزاب المعارضة الشيعية قبيل اجتماعات لندن في العام 2001.

الحاصل على الدكتوراه بالاقتصاد هذا لم يعد يرد على اتصالات مسؤولي التحالف المدني، وفضل الانضمام إلى "سائرون" لينقلب عليه التحالف ببيان ناري "السيد زيني أنه كان مرشحًا عن قائمتنا لانتخابات 2014، 2018 وفي انتخابات 2018 تحديدًا تم ترشيحه عن حزب التيار الاجتماعي الديمقراطي الحزب الأساس في قائمة التحالف، إلا أنه ومنذ الأيام الأولى لفوزه "أدار ظهره للحزب والقائمة التي رشحته عن بغداد".

ذاتها أمراض المدنيين في العمل الفردي ظهرت مع زيني الذي اتهمه تحالفه بركوب موجة المدنية "وهم في الحقيقة ليسوا سوى طلاب سلطة ومال".

أمراض المدنيون في العمل الفردي ظهرت مع محمد علي زيني حين انتقل إلى تحالف سائرون فيما بقي شعار الدولة المدنية مثل مطلع قصيدة أكثر منه مشروع سياسي!

هزال على مستوى القادة، ضرب بأحلام المدنيين وواقعهم، زادته دعاوى المقاطعة الشعبية، جدل التزوير والتلاعب بالنتائج، اتهامات المحسوبية والفساد ضد مفوضية الانتخابات، حتى صار كل من لم يبارح أريكة منزله يوم الاقتراع أحد جمهور العلمانية، لا شيء تحقق، لا تمثيل عددي، حتى لو كان شرفيًا، قد شرف الأغلبية الصامتة. بقى شعار الدولة المدنية مطلع قصيدة، أكثر منه مشروع سياسي بمعارضة  ناضجة إن قل، أو أغلبية ثورية إن زاد.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الحاجة للعمل "المنظم" في عراق المحاصصة الطائفية

تظاهرات حصرية "للعلمانيين" في العراق.. محاربة الطائفية بأسوأ منها