الترا عراق - فريق التحرير
عندما أُعلن أواخر العام 2018 عن تشكيل تحالفي "البناء" و"الإصلاح والإعمار" بدا أن البلاد تتجه إلى اصطفافات سياسية أكثر وضوحًا واختصارًا في العناوين، حيث ضم التحالف الأول أغلب الأحزاب والفصائل المسلحة المقربة من إيران (بدر والعصائب وكتائب الإمام علي ودولة القانون..)، فيما ضم الثاني القوى المناهضة للنفوذ الإيراني في العراق، أو تلك التي لا تبدي حماسًا تجاه ذلك النفوذ مثل (ائتلاف النصر وتحالف سائرون وتيار الحكمة)، إلا أن الاصطفاف على معيار (مقرّب ومناهض لإيران) هدد بمعركة كسر عظم، ليولد في وقت لاحق "تحالف ثالث" ضم مكونًا واحدًا من تحالف البناء (الفتح) ومكونًا آخر من تحالف الإصلاح والإعمار (سائرون).
وجد الصدر نفسه مضطرًا إلى العودة للشارع والانحياز للمتظاهرين بعد فشل حكومة عبدالمهدي التي ولدت من تحالفه مع العامري
ووفق المعادلة الجديدة وزعيميها (هادي العامري ومقتدى الصدر) مضى رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي في مهمته التي قيل في حينها أنها تمت بمباركة المرجع علي السيستاني في النجف.
لكن الفشل الحكومي وما تبعه من انطلاق تظاهرات تشرين الأول/أكتوبر 2019 أنهى المعادلة الوليدة، ليجد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر نفسه مضطرًا إلى العودة للشارع، والانحياز للمتظاهرين بانتظار ولادة معادلة جديدة.
الصدر و"الميليشيات الوقحة"
يتهم أنصار التيار الصدري، رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، بتشجيع عدد من الفصائل المسلحة على الانشقاق من التيار، والحديث هنا بشكل أساس يشير إلى عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي (15 مقعدًا برلمانيًا) والذي أعلن انشقاقه رسميًا عن التيار الصدري عام 2011، لتلتحق به عدة شخصيات وفصائل مسلحة.
لكن الصدر الذي بقي يتفرج على أنصاره وهم يتفرقون من تحت عباءته ويحظون بدعم إيراني، استثمر تلك الانشقاقات، وغيّر وجه وسمعة تياره من أحد أكثر التيارات المتهمة بإذكاء الحرب الاهلية عام 2006، إلى أكثر القوى الموثوقة لدى قيادات مكون العرب السنة.
اقرأ/ي أيضًا: القصة الكاملة لاغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في بغداد
ابتداءً من العام 2014، بدأ الصدر باستخدام مصطلح "الميليشيات الوقحة" في إدانة انتهاكات الفصائل المسلحة التي تُطلق على نفسها (فصائل المقاومة الإسلامية) ضد المدنيين، ودعا غير مرة إلى حل جميع الميليشيات، والاكتفاء بالقوى الرسمية الوطنية، وفك التبعية مع إيران، لكن من جانب آخر، يتهم مناوئون للتيار الصدري زعيمَ التيار بتصفية حسابات سابقة مع المنشقين عن تياره، من بوابة إدانة الانتهاكات.
استثمر الصدر انشقاق أنصاره ليغير سمعة تياره ويكسب ثقة قيادات مكون العرب السنة عبر سنوات من مهاجمة "المليشيات الوقحة"
وشهدت أعوام 2014 إلى 2018، ذروة الصدام الكلامي وأحيانًا المباشر، بين الصدر والقوى الوطنية المناهضة للنفوذ الإيراني والميليشياوي من جهة، والفصائل المقربة من إيران، والتي انشق غالبيتها من التيار الصدري، مثل العصائب والنجباء.
ورغم الزيارة غير المسبوقة التي قام بها وفد ضم جميع قيادات فصائل المقاومة الإسلامية تقريبًا، إلى منزل الصدر أواخر العام 2016، إلا أن التوتر ظل يخيم على العلاقة بين الطرفين، الصدر.. والمنشقون عنه، كما يظهر في جواب زعيم عصائب اهل الحق على سؤال بشأن إمكانية عودته إلى عباءة الصدر.
"المقاوم الدولي مقتدى الصدر"
لم يتخلّ الصدر في بياناته عن عبارة "المقاومة الإسلامية" في وصف فصائله المسلحة، رغم أنه حافظ إلى حد كبير على استقلالها عن الحشد الشعبي، كما حاول النأي بها عن الوجود في المناطق المشتركة مع فصائل الحشد.
أما مساء الأحد (5 كانون الثاني/يناير) فقد بدا أن الصدر يخطط لتوسيع فكرة "المقاومة الإسلامية" حيث أطلق مصطلح "المقاومة الدولية" في دعوة منه إلى جميع الفصائل المسلحة داخل وخارج العراق للاجتماع وتوحيد الجهود للرد على عملية اغتيال سليماني والمهندس.
أطلق الصدر إشارات عديدة تظهر استعداده لشغل الفراغ الذي خلفه سليماني والمهندس بالنسبة للفصائل المسلحة في العراق
وخلّف غياب الرجلين بضربة واحدة فراغًا "قياديًا" بالنسبة للفصائل التي تتجاوز أعدادها العشرات، ويقود كلاً منها زعماء شباب، أو محدودي الشعبية، لا يُمكن أن يشغلوا الفراغ الذي خلفه غياب المهندس وسليماني، ولذا، فقد أطلق الصدر إشارات عديدة تُشير إلى أهليته لشغل الفراغ، ويبدو أن قيادات الفصائل الذين خسروا زعيمهم الوحيد، تلقوا تلك الإشارات كطوق نجاة.
اقرأ/ي أيضًا: لحظات المهندس وسليماني الأخيرة.. شكوك وتفاصيل "سرية"
فكرة أن تتم مبايعة الصدر زعيمًا "ضمنيًا أو اعتباريًا" لفصائل المقاومة الإسلامية خلفًا للمهندس، لا تبدو مُستبعدة حتى بالنسبة إلى أكثر الفصائل اختلافًا مع الصدر.
ما إن أطلق زعيم التيار الصدري مبادرته حتى تفاعل معه كلُ من "أبو آلاء الولائي" والذي يقود كتائب سيد الشهداء (فصيل يؤمن بولاية الفقيه علي خامنئي). كتب الولائي بحماس "شكرًا لسماحة الأخ المجاهد مقتدى الصدر.. وإلى المقاومة الدولية لدحر أمريكا".
وكتب شبل الزيدي قائد فرقة الإمام علي الذي تتهمه الولايات المتحدة بالإرهاب: "نِعم الرأي.. فأنت سيدنا..".
فيما كتب أكرم الكعبي والذي يوصف بأنه أكثر زعماء الفصائل قربًا من مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي: "بعزيمة وعقيدة واستعداد وجهوزية نحو أفواج المقاومة الدولية".
تفاعل قادة أبرز الفصائل المسلحة مع مبادرة الصدر حيث لا تبدو فكرة مبايعته "زعيمًا" مرفوضةً حتى من جانب أكثر الفصائل اختلافًا معه
وشكّل التناغم الأخير حالة غير مسبوقة، لم يكن يُمكن أن تسجل في السنوات السابقة، بل منذ انشقاق العديد من فصائل المقاومة من التيار الصدري وارتباطها عقائديًا وماليًا وسياسيًا بتيار ولاية الفقيه بزعامة خامنئي، ومع هذا، فلا يُمكن توصيف هذا "التناغم" على وجه الدقة، فهو قد يعبر عن استعادة الصدر للفصائل المسلحة التي خسرها خلال السنوات الماضية، لكنه قد يمثل أيضًا من وجهة نظر زعماء الفصائل الولائية، استمالة للصدر إلى الخطاب الفصائلي، بعد سنوات من تحوّل الصدر إلى ما يُوصف بتيار الاعتدال الوطني، الداعي إلى النأي بالعراق عن الصراعات الإقليمية، والتي يُقصد فيها غالبًا صراعات إيران مع الجوار والولايات المتحدة.
رغبة في إنهاء "قصة الساحة"
ولم تمض ساعات على إعلان مقتل زعيم فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي جمال جعفر (ابو مهدي المهندس) حتى بدأ سلوك المجاميع الصدرية في ساحة التحرير باتخاذ منحىً جديد.
حافظ الصدريون على حيادهم خلال أكثر من شهرين من الوجود في ساحة التظاهرات، شددوا على إظهار حسن النوايا والرد على الاتهامات التي تواجههم بـ "ركوب الموجة"، إلا أن الأيام الأخيرة شهدت نزوعًا صدريًا للحسم، يظهر في بيانات ومنشورات مؤيدي التيار، الذين بدأوا بالميل إلى فكرة طرح مرشح لرئاسة الوزراء باسم ساحة التحرير.
يتهم متظاهرون، أنصارَ التيار الصدري بالسيطرة على مبنى المطعم التركي وسط ساحة التحرير مساء السبت (4 كانون الثاني/يناير) وإذاعة بيان يطرح اسمي عبدالغني الأسدي ورحيم العكيلي مرشحين عن المتظاهرين لرئاسة الوزراء، وفيما تسري أنباء متكررة عن قيام الأول بإبرام تفاهمات مع قيادات في تحالف البناء المقرب من طهران، يُصنّف العكيلي على أنه من أكثر الشخصيات قربًا من التيار الصدري.
نزع سلوك "الصدريين" في ساحات الاحتجاج نحو الحسم بعد ساعات من مقتل المهندس وسليماني عبر الميل إلى طرح مرشحين لرئاسة الحكومة
رد المتظاهرون على محاولة طرح الشخصيتين بـ "ضجة رفض" وصل مداها إلى الصدر نفسه، لتصدر صفحته على فيسبوك نفياً "مقتضبًا" جاء فيه "إننا لن نرشح أحدًا.. ولن نصوت لأحد وإذا لم يتم تدارك الأمر فالعراق إلى الأسوأ".
اقرأ/ي أيضًا: بعد صور ومعلومات عن مقتل زعماء فصائل.. تضارب حول قصف التاجي والتحالف يعلق
لكن مقربين من التيار الصدري ينفون أن يكون الحراك الصدري الأخير في ساحة التظاهرات على علاقة بأي طموحات لدى مقتدى الصدر، إلى تزعم فصائل المقاومة وإغلاق ملف التظاهرات، ويؤكدون أن حراك بعض خيم الاعتصام المحسوبة على الصدريين في الساحة، إنما تتم انطلاقًا من شعور المسؤولين عنها بخطورة الوضع الراهن، وليس بتوجيه مركزي.
"بطيختان بين يدي الصدر"
وسّع اختفاء رجلين بحجم سليماني والمهندس "في لحظة واحدة" المجال أمام الصدر، فقد أصبح يملك فرصتين للعب بدل الفرصة الواحدة التي كانت تتمثل بالمراهنة على زج جمهوره إلى جانب المحتجين.
أصبح بإمكان الصدر بعد عملية المطار، الاستمرار بدوره السابق في الانحياز إلى المتظاهرين المناهضين في غالبيتهم للنفوذ الإيراني في العراق، أما الفرصة الثانية فتتمثل بتقديم المزيد من إشارات التصعيد، الأمر الذي قد يدفع الفصائل المسلحة الموالية لإيران والفاقدة لزعيم روحي، إلى الاقتراب من الصدر شيئًا فشيئًا، ليستعيد بذلك الكثير من "خسائره الفصائلية" خلال السنوات الأخيرة.
رائحة المناورة تنتشر
لكن للخيارين ضرائبهما، فإذا كان الاستمرار في تبنّي الدعوات المناهضة للنفوذ الإيراني مكلفًا لجهة القدرة على النفوذ إلى الكابينة الحكومية ومواقع القرار، فإن الاقتراب أكثر إلى الفصائل الموالية لإيران يهدد شعبية بناها الصدر خلال 10 سنوات على مناهضة النفوذ الأجنبي في البلاد وعلى رأسه الإيراني، وقد بدت ملامح التذمر الأولى فجر الإثنين، حين تعرض الموقع الرسمي للصدر إلى الاختراق للمرة الأولى، بعد أن كانت جهود الاختراق منصبّة في الفترة السابقة على مواقع تابعة للحشد الشعبي والفصائل القريبة من إيران.
بدت ملامح التذمر من اقتراب الصدر تظهر حيث تعرض موقعه الإلكتروني إلى الاختراق ونشرت على واجهته رسالة تهاجم الصدر
كتب المخترقون عبارات مسيئة للصدر على واجهة موقعه الرسمي، ووضع علم إيران على وجه الصدر، في إشارة إلى أن رائحة المناورة التي ربما يفكر الصدر بطهيها على نار هادئة.. قد وصلت إلى الجمهور.
اقرأ/ي أيضًا:
"فيتو" المتظاهرين يواجه "العصي".. العگيلي منتحرًا بأمر الشعب
المال والولاء في علاقة "الفصائل الشيعية" بإيران.. هل يتمردون على الولي الفقيه؟